وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْفِيُّ جِنْسَ الْحُجَّةِ الْمُفِيدَةِ، بِمَعُونَةِ الْقَرِينَةِ مِثْلَ: لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مَا أَظْهَرَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ يَكُونُ مِنَ الْعَبَثِ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ مُكَابِرُونَ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَيْسَ هَذَا النَّفْيُ مُسْتَعْمَلًا فِي النَّهْيِ عَنِ التَّصَدِّي لِلِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ فَقَدْ حَاجَّهُمُ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ وحاجّهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَضِيَّةِ الرَّجْمِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: ٤٦] فَالِاسْتِثْنَاءُ صَرِيحٌ فِي مَشْرُوعِيَّةِ مُجَادَلَتِهِمْ.
وَ (بَيْنَ) الْمُكَرَّرَةُ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ ظَرْفٌ مُوَزَّعٌ عَلَى جَمَاعَاتِ أَوْ أَفْرَادِ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ. وَضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، كَمَا يُقَالُ: قَسَّمَ بَيْنَهُمْ، وَهَذَا مُخَالف ل (بَيْنَ) الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا.
وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا الْحَشْرُ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، فَيَوْمَئِذٍ يَتَبَيَّنُ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ، وَهَذَا كَلَامٌ مُنْصِفٌ. وَلَمَّا كَانَ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنَ الْوَاثِقِ بِحَقِّهِ كَانَ خِطَابُهُمْ بِهِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُتَارَكَةِ وَالْمُحَاجَزَةِ، أَيْ سَأَتْرُكُ جِدَالَكُمْ وَمُحَاجَّتَكُمْ لِقِلَّةِ جَدْوَاهَا فِيكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ يَقْضِي بَيْنَنَا يَوْمَ يَجْمَعُنَا، فَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْقَضَاءَ سَيَكُونُ لَهُ عَلَيْهِمْ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا لِلتَّقَوِّي، أَيْ تَحْقِيقِ وُقُوعِ هَذَا الْجَمْعِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمُ الْيَهُودُ يُثْبِتُونَ الْبَعْثَ.
وَ (بَيْنَ) هُنَا ظَرْفٌ مُوَزَّعٌ مِثْلَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ.
وَجُمْلَةُ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَجْمَعُ بَيْنَنا. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَصِيرُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ مَصِيرُ النَّاسِ كُلِّهِمْ، فَبِذَلِكَ كَانَتِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا بِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ، أَيْ مَصِيرُنَا وَمَصِيرُكُمْ وَمَصِيرُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ.
وَهَذِهِ الْجُمَلُ الْأَرْبَعُ تَقْتَضِي الْمُحَاجَزَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ الْيَهُودِ وَهِيَ مُحَاجَزَةٌ فِي الْمُقَاوَلَةِ وَمُتَارَكَةٌ فِي الْمُقَاتَلَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ فِي قِتَالِهِمْ لَمَّا ظَاهَرُوا الْأَحْزَابَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute