وَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ بِحَضْرَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَابْتَدَرَ سَعِيدٌ فَقَالَ: قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَجِلْتَ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهِمْ قَرَابَةٌ، فَقَالَ: إِلَّا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَكْثَرَ النَّاسُ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَكَتَبْنَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ نَسْأَلُهُ عَنْهَا فَكَتَبَ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوْسَطَ النَّاسِ فِي قُرَيْشٍ فَلَيْسَ بَطْنٌ مِنْ بُطُونِهِمْ إِلَّا وَقَدْ وَلَدَهُ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي فِي قَرَابَتِي مِنْكُمْ، أَيْ تُرَاعُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَتَصُدِّقُونِي، فَالْقُرْبَى هَاهُنَا قَرَابَةُ الرَّحِمِ كَأَنَّهُ قَالَ:
اتَّبَعُونِي لِلْقَرَابَةِ إِنْ لم تتبعوني للنبوءة. انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ. وَمَا فَسَّرَ بِهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ
الْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ تَوَدُّوا أَقَارِبِي تَلْفِيقُ مَعْنًى عَنْ فَهْمٍ غَيْرِ مَنْظُورٍ فِيهِ إِلَى الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ، وَلَا تَصِحُّ فِيهِ رِوَايَةٌ عَمَّنْ يُعْتَدُّ بِفَهْمِهِ.
أَمَّا كَوْنُ محبَّة آل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِ مَحَبَّةِ مَا لَهُ اتِّصَالٌ بِهِ خُلُقًا مِنْ أَخْلَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَحَاصِلٌ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى، وَتَحْدِيدُ حُدُودِهَا مُفَصَّلٌ فِي «الشِّفَاءِ» لِعِيَاضٍ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ الْمَوَدَّةَ لِأَجْلِ الْقَرَابَةِ لَيْسَتْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ بِالْقُرْآنِ وَلَكِنَّهَا مِمَّا تَقْتَضِيهِ الْمُرُوءَةُ فَلَيْسَ اسْتِثْنَاؤُهَا مِنْ عُمُومِ الْأَجْرِ الْمَنْفِيِّ اسْتِثْنَاءً حَقِيقِيًّا. وَالْمَعْنَى: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى التَّبْلِيغِ أَجْرًا وَأَسْأَلُكُمُ الْمَوَدَّةَ لِأَجْلِ الْقُرْبَى. وَإِنَّمَا سَأَلَهُمُ الْمَوَدَّةَ لِأَنَّ مُعَامَلَتَهُمْ إِيَّاهُ مُعَامَلَةَ الْمَوَدَّةِ مُعِينَةٌ عَلَى نَشْرِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، إِذْ تَلِينُ بِتِلْكَ الْمُعَامَلَةِ شَكِيمَتُهُمْ فَيَتْرُكُونَ مُقَاوَمَتَهُ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ عَلَى وَجْهٍ أَكْمَلَ. فَصَارَتْ هَذِهِ الْمَوَدَّةُ غَرَضًا دِينِيًّا لَا نَفْعَ فِيهِ لنَفس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ الْمَوْضُوعَةِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ كَانَتْ تَنُوبُهُ نَوَائِبُ لَا يَسَعُهَا مَا فِي يَدَيْهِ. فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ هَدَاكُمُ اللَّهُ بِهِ فَنَجْمَعُ لَهُ مَالًا، فَفَعَلُوا ثُمَّ أَتَوْهُ بِهِ، فَنَزَلَتْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute