للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ الْأَنْصَارَ قَالُوا لَهُ يَوْمًا: أَنْفُسُنَا وَأَمْوَالُنَا لَكَ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ نَزَلَ ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الشورى: ٢٣، ٢٤] . وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ فَرِيقٌ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مَدَنِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَهِيَ أَخْبَارٌ وَاهِيَةٌ.

وَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَتَطَلَّبَ مِنَ النَّاسِ جَزَاءً عَلَى تَبْلِيغِ الْهُدَى إِلَيْهِمْ فَإِنَّ النُّبُوءَةَ أَعْظَمُ مَرْتَبَةٍ فِي تَعْلِيمِ الْحَقِّ وَهِيَ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْحِكْمَةِ، وَالْحُكَمَاءُ تَنَزَّهُوا عَنْ أَخْذِ الْأَجْرِ عَلَى تَعْلِيمِ الْحِكْمَةِ، فَإِنَّ الْحِكْمَةَ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَالْخَيْرُ الْكَثِيرُ لَا تُقَابِلُهُ أَعْرَاضُ الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ رُسُلَهُ بِالتَّنَزُّهِ عَنْ طَلَبِ جَزَاءٍ عَلَى التَّبْلِيغِ، فَقَالَ حِكَايَةً عَنْ نوح وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاء: ١٠٩] . وَكَذَلِكَ حَكَى عَنْ هُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ.

وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ.

تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَالْمَعْنَى:

وَكُلَّمَا عَمِلَ مُؤْمِنٌ حَسَنَةً زِدْنَاهُ حُسْنًا مِنْ ذَلِكَ الْفَضْلِ الْكَبِيرِ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: ٢٦١] وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ.

وَالِاقْتِرَافُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْقَرْفِ، وَهُوَ الِاكْتِسَابُ، فَالِاقْتِرَافُ مُبَالَغَةٌ فِي الْكَسْبِ نَظِيرَ الِاكْتِسَابِ، وَلَيْسَ خَاصًّا بِاكْتِسَابِ السُّوءِ وَإِنْ كَانَ قَدْ غَلَبَ فِيهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَرَفَ الشَّجَرَةَ، إِذَا قَشَّرَ قِرْفَهَا، بِكَسْرِ الْقَافِ، وَهُوَ لِحَاؤُهَا، أَيْ قِشْرُ عُودِهَا، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١١٣] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٢٤] .

وَالْحَسَنَةُ: الْفَعْلَةُ ذَاتُ الْحُسْنِ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ غَلَبَتْ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْقُرْبَةِ فَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَامِدِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْحُسْنِ وَهُوَ جَمَالُ الصُّورَةِ. وَالْحُسْنُ: ضِدُّ الْقُبْحِ وَهُوَ صِفَةٌ فِي الذَّاتِ تَقْتَضِي قَبُولَ مَنْظَرِهَا فِي نُفُوسِ الرَّائِينَ وَمَيْلَهُمْ إِلَى مُدَاوَمَةِ مُشَاهَدَتِهَا. وَتُوصَفُ الْمَعْنَوِيَّاتُ بِالْحُسْنِ فَيُرَادُ بِهِ كَوْنُ الْفِعْلِ أَوِ الصِّفَةِ مَحْمُودَةً عِنْدَ الْعُقُولِ مَرْغُوبًا فِي الِاتِّصَافِ بِهَا.