للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَضْعُ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ، أَيْ تَعَلُّقُ إِرَادَةِ اللَّهِ بِإِرْشَادِ النَّاسِ إِلَى اجْتِنَابِ مَا يخل باستقامة شؤونهم بِأَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ وَمَوْعِظَتِهِمْ وَوَعْدِهِمْ وَوَعِيدِهِمْ، مِنْ يَوْمِ نَهَى آدَمَ عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ وَتَوَعَّدَهُ بِالشَّقَاءِ إِنْ أَكَلَ مِنْهَا ثُمَّ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَى النَّاسِ وَتَبْلِيغِهِمْ إِيَّاهُمْ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ بِوَضْعِ الشَّرَائِعِ وَذَلِكَ مِنْ عَهْدِ نُوحٍ بِلَا شَكٍّ أَوْ مِنْ عَهْدِ آدَمَ إِنْ قُلْنَا إِنَّ آدَمَ بَلَّغَ أَهْلَهُ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ. فَتَعَيَّنَ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ آمِرٌ وَنَاهٍ وَوَاعِدٌ وَمُوعِدٌ، وَمُخْبِرٌ بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، وَأَنَّ مُرَادَهُ ذَلِكَ أَبْلَغَهُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ بِكَلَامٍ يُلْقَى إِلَيْهِمْ وَيَفْهَمُونَهُ وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ لَهُمْ قَبْلَ النُّبُوءَةِ وَهُوَ مُتَفَاوِتُ الْأَنْوَاعِ فِي

مُشَابَهَةِ الْكَلَامِ الْمُتَعَارَفِ.

وَلَمَّا لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَصْفُ اللَّهِ بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ وَلَا إِثْبَاتُ صِفَةٍ لَهُ تُسَمَّى الْكَلَامَ، وَلَمْ تَقْتَضِ ذَلِكَ حَقِيقَةُ الْإِلَهِيَّةِ مَا كَانَ ثَمَّةَ دَاعٍ إِلَى إِثْبَاتِ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنَ الْخَلَفِ من أشعرية وَمَا تريدية إِذْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ وَإِنَّ لَهُ صِفَةً تُسَمَّى الْكَلَامَ وَبِخَاصَّةٍ الْمُعْتَزِلَةُ إِذْ قَالُوا إِنَّهُ مُتَكَلِّمٌ وَنَفَوْا صِفَةَ الْكَلَامِ وَأَمْرُ الْمُعْتَزِلَةِ أَعْجَبُ إِذْ أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ الْمَعْنَوِيَّةَ لِأَجْلِ الْقَوَاطِعِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَأَنْكَرُوا صِفَاتِ الْمَعَانِي تَوَرُّعًا وَتَخَلُّصًا مِنْ مُشَابَهَةِ الْقَوْلِ بِتَعَدُّدِ الْقُدَمَاءِ بِلَا دَاعٍ، وَقَدْ كَانَ لَهُمْ فِي عَدَمِ إِثْبَاتِ صِفَةِ الْمُتَكَلِّمِ مَنْدُوحَةٌ لِانْتِفَاءِ الدَّاعِي إِلَى إِثْبَاتِهَا، خِلَافًا لِمَا دَعَا إِلَى إِثْبَاتِ غَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَقَدْ حَكَى فَخْرُ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ.

وَقُصَارَى مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ إِسْنَادُ فِعْلِ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ أَوْ إِضَافَةُ مَصْدَرِهِ إِلَى اسْمِهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ أَنْ يُشْتَقَّ مِنْهُ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا لِلَّهِ صِفَةُ نَافِخِ الْأَرْوَاحِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الْحجر: ٢٩] ، فَالَّذِي حَدَا مُثْبِتِي صِفَةِ الْكَلَامِ لِلَّهِ هُوَ قُوَّةُ تَعَلُّقِ هَذَا الْوَصْفِ بِصِفَةِ الْعِلْمِ فَخَصُّوا هَذَا التَّعَلُّقَ بِاسْمٍ خَاصٍّ وَجَعَلُوهُ صِفَةً مُسْتَقِلَّةً مِثْلَ مَا فَعَلُوا فِي صِفَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ.

هَذَا، وَاعْلَمْ أَنَّ مُثْبِتِي صِفَةِ الْكَلَامِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي حَقِيقَتِهَا، فَذَهَبَ السَّلَفُ إِلَى أَنَّهَا صِفَةٌ قَدِيمَةٌ كَسَائِرِ صِفَاتِ اللَّهِ. فَإِذَا سُئِلُوا عَنِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي هِيَ الْكَلَامُ: أَقَدِيمَةٌ هِيَ أَمْ حَادِثَةٌ؟ قَالُوا: قَدِيمَةٌ، وَتَعَجَّبَ مِنْهُمْ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ وَنَبَزَهُمْ وَلَا