أَحْسَبُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ تَحَاشَوْا عَنِ التَّصْرِيحِ بِأَنَّهَا حَادِثَةٌ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ ذَلِكَ دَهْمَاءَ الْأُمَّةِ إِلَى اعْتِقَادِ حُدُوثِ صِفَاتِ اللَّهِ، أَوْ يُؤَدِّيَ إِلَى إِبْطَالِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ، لِأَنَّ تِبْيَانَ حَقِيقَةِ مَعْنَى الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِمْ:
كَلَامُ اللَّهِ، دَقِيقٌ جِدًّا يَحْتَاجُ مُدْرِكُهُ إِلَى شَحْذِ ذِهْنِهِ بِقَوَاعِدِ الْعُلُومِ، وَالْعَامَّةُ عَلَى بَوْنٍ مِنْ ذَلِكَ. وَاشْتُهِرَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ زَمَنَ فِتْنَةِ خَلْقِ الْقُرْآنِ. وَكَانَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي زَمَنِ الْعُبَيْدِيِّينَ مُلْتَزِمِينَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ بن أَبِي زَيْدٍ فِي «الرِّسَالَةِ» : «وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَيَبِيدَ وَلَا صِفَةٍ لِمَخْلُوقٍ فَيَنْفَدَ» . وَقَدْ نَقَشُوا عَلَى إِسْطُوَانَةٍ مِنْ أَسَاطِينِ الْجَامِعِ بِمَدِينَةِ سُوسَةَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ: «الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ» وَهِيَ مَاثِلَةٌ إِلَى الْآنِ.
قَالَ فَخْرُ الدِّينِ: وَاتَّفَقَ أَنِّي قُلْتُ يَوْمًا لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ إِمَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ بِهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً
لَا يُفِيدُ هَذَا النَّظْمَ الْمُرَكَّبَ عَلَى التَّعَاقُبِ وَالتَّوَالِي، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى التَّوَالِي كَانَتْ مُحْدَثَةً، فَلَمَّا سَمِعَ مِنِّي هَذَا الْكَلَامَ قَالَ: «الْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُقِرَّ وَنُمُرَّ» يَعْنِي نُقِرُّ بِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَنَمُرُّ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى وَفْقِ مَا سَمِعْنَاهُ قَالَ: فَتَعَجَّبْتُ مِنْ سَلَامَةِ قَلْبِ ذَلِكَ الْقَائِلِ.
وَمِنَ الْغَرِيبِ جِدًّا مَا يُعْزَى إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ كَرَّامٍ وَأَصْحَابِهِ الْكَرَّامِيَّةِ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى، وَقَالُوا: لَا يَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ لِلَّهِ قَدِيمَةٌ، وَنُسِبَ مِثْلُ هَذَا إِلَى الْحَشَوِيَّةِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَأَثْبَتُوا لِلَّهِ أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ وَمَنَعُوا أَنْ تَكُونَ لَهُ صِفَةٌ تُسَمَّى الْكَلَامَ، وَالَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا شَاعَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَعِنْدَ السَّلَفِ مِنْ إِسْنَادِ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ وَإِضَافَتِهِ إِلَيْهِ وَقَالُوا: إِنَّ اشْتِقَاقَ الْوَصْفِ لَا يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْمَصْدَرِ بِالْمَوْصُوفِ، وَتِلْكَ طَرِيقَتُهُمْ فِي صِفَاتِ الْمَعَانِي كُلِّهَا، وَزَادُوا فَقَالُوا: مَعْنَى كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا أَنَّهُ خَالِقُ الْكَلَامِ.
وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي نَقُولُ: إِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ الْمُرَكَّبُ مِنْ حُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ، الْمَتْلُوُّ بِأَلْسِنَتِنَا، الْمَكْتُوبُ فِي مَصَاحِفِنَا، إِنَّهُ حَادِثٌ وَلَيْسَ هُوَ صِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا صِفَةُ اللَّهِ مَدْلُولُ ذَلِكَ الْكَلَامِ الْمُرَكَّبِ مِنَ الْحُرُوفِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute