حَالَةٍ مُعَرَّفٍ بِهَا فَمَعْنَى أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً يَحْتَمِلُ أَنَّ لَوْلَا أَنْ يَصِيرَ الْبَشَرُ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ يَوْمَئِذٍ، أَيِ الْكُفْرُ وَنَبْذُ الْفِكْرَةِ فِي الْآخِرَةِ وَعَلَى هَذَا تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ (١) .
فَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: لَوْلَا أَنْ يَصِيرَ النَّاسُ كُلُّهُمْ كُفَّارًا لَخَصَّصْنَا الْكَافِرِينَ بِالْمَالِ وَالرَّفَاهِيَةِ وَتَرَكْنَا الْمُسْلِمِينَ لِمَا ادَّخَرْنَا لَهُمْ مِنْ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، فَيَحْسَبُ ضُعَفَاءُ الْعُقُولِ أَنَّ لِلْكُفْرِ أَثَرًا فِي حُصُولِ الْمَالِ جَعَلَهُ اللَّهُ جَزَاءً لِمَنْ سَمَّاهُمْ بِالْكَافِرِينَ فَيَتْبَعُوا دِينَ الْكُفْرِ لِتَخَيُّلِهِمُ الْمُلَازِمَةَ بَيْنَ سَعَادَةِ الْعَيْشِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي الْأَجْيَالِ الْأَوْلَى أَصْحَابَ أَوْهَامٍ وَأَغْلَاطٍ يَجْعَلُونَ لِلْمُقَارَنَةِ حُكْمَ التَّسَبُّبِ فَيُؤَوَّلُ الْمَعْنَى إِلَى: لَوْلَا تَجَنُّبُ مَا يُفْضِي إِلَى عُمُومِ الْكُفْرِ وَانْقِرَاضِ الْإِيمَانِ، لَجَعَلْنَا الْمَالَ لِأَهْلِ الْكُفْرِ خَاصَّةً، أَيْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ انْقِرَاضَ الْإِيمَانِ مِنَ النَّاسِ وَلَمْ يُقَدِّرِ اتِّحَادَ النَّاسِ عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ بِقَوْلِهِ: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هود: ١١٨، ١١٩] أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَطَفَ بِالْعِبَادِ فَعَطَّلَ مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى اضْمِحْلَالِ الْهُدَى مِنْ بَيْنِهِمْ، أَيْ أَبْقَى بَيْنَهُمْ بَصِيصًا مِنْ نُورِ الْهُدَى.
وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الْأَوْلَى عِنْدِي: أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ فِي النَّاسُ لِلْعَهْدِ مُرَادًا بِهِ بَعْضُ طَوَائِفِ الْبَشَرِ وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ وَعَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمرَان: ١٧٣] وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ أُمَّةً وَاحِدَةً اتِّحَادُهُمْ فِي الثَّرَاءِ.
وَالْمَعْنَى: لَوْلَا أَنْ تَصِيرَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ أَهْلَ ثَرْوَةٍ كُلَّهُمْ أَيْ وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنِ اشْتِمَالِ كُلِّ بَلَدٍ وَكُلِّ قَبِيلَةٍ وَكُلِّ أُمَّةٍ عَلَى أَغْنِيَاءَ وَمَحَاوِيجَ لِإِقَامَةِ نِظَامِ الْعُمْرَانِ وَاحْتِيَاجِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، هَذَا لِمَالِهِ، وَهَذَا لِصِنَاعَتِهِ، وَآخَرُ لِمَقْدِرَةِ بَدَنِهِ لَجَعَلْنَا من يكفر بالرحمان وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ سَوَاءً فِي الثَّرَاءِ وَالرَّفَاهِيَةِ. وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ يَتَلَخَّصُ مِنَ الْمَعْنَى أَنَّ الثَّرَاءَ وَالرَّفَاهِيَةَ لَا يُقِيمُ الْمُدَبِّرُ الْحَكِيمُ لَهُمَا وَزْنًا فَلَا يُمْسِكُهُمَا عَنِ النَّاكِبِينَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَالْكَمَالِ، فَصَارَ الْكَلَامُ يَقْتَضِي مُقَدَّرًا مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ لَكِنْ لَا يَكُونُ النَّاسُ سَوَاءً فِي الْغِنَى لِأَنَّا لَمْ نَجْعَلْ ذَلِكَ لِأَنَّا قَدَّرْنَا فِي نِظَامِ الْكَوْنِ الْبِشْرِيِّ
(١) جمعناهم فِي هَذَا التَّأْوِيل لِأَن مآل أَقْوَالهم مُتَقَارِبَة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute