فِي قَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الزخرف: ٥٩] الْآيَةَ، أَيْ لَمَّا جَاءَهُمْ عِيسَى اخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ فِيمَا جَاءَ بِهِ، فَحُذِفَ جَوَابُ لَمَّا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ قَوْلُهُ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: ٦٥] لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ سَنَنَ الْأُمَمِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ لَمْ يَخْتَلِفْ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْلُ رَسُولٌ عَنْ قَوْمٍ آمَنُوا بِهِ وَقَوْمٍ كَذَّبُوهُ ثُمَّ كَانُوا سَوَاءً فِي نِسْبَةِ الشُّرَكَاءِ فِي الْإِلَهِيَّةِ بِمَزَاعِمِ النَّصَارَى أَنَّ عِيسَى ابْنٌ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا [الزخرف: ٦٥] أَيْ أَشْرَكُوا كَمَا هُوَ اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ غَالِبًا. فَتَمَّ التَّشَابُهُ بَيْنَ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، فَحَصَلَ فِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ فَاءُ التَّفْرِيعِ.
وَفِي قِصَّةِ عِيسَى مَعَ قَوْمِهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِشْرَاكَ مِنْ عَوَارِضِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ لَا يَلْبَثُ أَنْ يُخَامِرَ نُفُوسَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِقًا بِهَا مِنْ قبل، فَإِن عيس بُعِثَ إِلَى قَوْمٍ لَمْ يَكُونُوا
يَدِينُونَ بِالشِّرْكِ إِذْ هُوَ قَدْ بُعِثَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَكُلُّهُمْ مُوَحِّدُونَ فَلَمَّا اخْتَلَفَ أَتْبَاعُهُ بَيْنَهُمْ وَكَذَّبَتْ بِهِ فِرَقٌ وَصَدَّقَهُ فَرِيقٌ ثُمَّ لَمْ يَتَّبِعُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ حَدَثَتْ فِيهِمْ نِحْلَةُ الْإِشْرَاكِ.
وَجُمْلَةُ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ وَلَيْسَتْ جَوَابًا لِشَرْطِ لَمَّا الَّذِي جُعِلَ التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ [مَرْيَم: ٣٧] دَلِيلًا عَلَيْهِ. وَفِي إِيقَاعِ جُمْلَةِ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ بَيَانًا لِجُمْلَةِ جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ بَادَأَهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّ شَأْنَ أَهْلِ الضَّلَالَةِ أَنْ يُسْرِعُوا إِلَى غَايَاتِهَا وَلَوْ كَانَتْ مَبَادِئُ الدَّعْوَةِ تُنَافِي عَقَائِدَهُمْ، أَيْ لَمْ يَدْعُهُمْ عِيسَى إِلَى أَكْثَرَ مِنِ اتِّبَاعِ الْحِكْمَةِ وَبَيَانِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَلَمْ يَدْعُهُمْ إِلَى مَا يُنَافِي أُصُولَ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ صُدُودٍ مُرِيعٍ عَنْهُ وَتَكْذِيبٍ.
وَابْتِدَاؤُهُ بِإِعْلَامِهِمْ أَنَّهُ جَاءَهُمْ بِالْحِكْمَةِ وَالْبَيَانِ وَهُوَ إِجْمَالُ حَالِ رِسَالَتِهِ تَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي وَعْيِ مَا سَيُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ مِنْ تَفَاصِيلِ الدَّعْوَةِ الْمُفَرَّعِ بَعْضُهَا عَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ:
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ.
وَالْحِكْمَةُ هِيَ مَعْرِفَةُ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْحَسَنِ وَيَكُفُّ عَنِ الْقَبِيحِ وَهِي هُنَا النبوءة،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute