للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَوِ الْأَلْبَانِ، وَكَانَ حُكَمَاءُ الْيُونَانِ يَرْتَاضُونَ عَلَى إِقْلَالِ الطَّعَامِ بِالتَّدْرِيجِ حَتَّى يَعْتَادُوا تَرْكَهُ أَيَّامًا مُتَوَالِيَةً، وَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ التَّدْرِيجَ فِي إِقْلَالِ الطَّعَامِ تَدْرِيجًا لَا يُخْشَى مِنْهُ انْخِرَامُ صِحَّةِ الْبَدَنِ أَنْ يَزِنَ الْحَكِيمُ شَبَعَهُ مِنَ الطَّعَامِ بِأَعْوَادٍ مِنْ شَجَرِ التِّينِ رَطْبَةً ثُمَّ لَا يُجَدِّدُهَا فَيَزِنُ بِهَا كُلَّ يَوْمٍ طَعَامَهُ لَا يَزِيدُ عَلَى زِنَتِهَا وَهَكَذَا يَسْتَمِرُّ حَتَّى تَبْلُغَ مِنَ الْيُبْسِ إِلَى حَدٍّ لَا يُبْسَ بَعْدَهُ فَتَكُونُ هِيَ زِنَةُ طَعَامِ كُلِّ يَوْمٍ.

وَفِي «حِكْمَةِ الْإِشْرَاقِ» لِلسَّهْرُوَرْدِيِّ «وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي قِرَاءَةِ هَذَا الْكِتَابِ يَرْتَاضُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَارِكًا لِلُحُومِ الْحَيَوَانَاتِ مُقَلِّلًا لِلطَّعَامِ مُنْقَطِعًا إِلَى التَّأَمُّلِ لنُور الله اهـ» .

وَإِذْ قَدْ كَانَ مِنَ الْمُتَعَذِّرِ عَلَى الْهَيْكَلِ الْبَشَرِيِّ بِمَا هُوَ مُسْتَوْدَعُ حَيَاةٍ حَيَوَانِيَّةٍ أَنْ يَتَجَرَّدَ عَنْ حَيَوَانِيَّتِهِ، فَمِنَ الْمُتَعَذِّرِ عَلَيْهِ الِانْقِطَاعُ الْبَاتُّ عَنْ إِمْدَادِ حَيَوَانِيَّتِهِ بِمَطْلُوبَاتِهَا فَكَانَ مِنَ اللَّازِمِ لِتَطَلُّبِ ارْتِقَاءِ نَفْسِهِ أَنْ يَتَدَرَّجَ بِهِ فِي الدَّرَجَاتِ الْمُمْكِنَةِ مِنْ تَهْذِيبِ حَيَوَانِيَّتِهِ وَتَخْلِيصِهِ مِنَ التَّوَغُّلِ فِيهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، لِذَلِكَ كَانَ الصَّوْمُ أَهَمِّ مُقَدِّمَاتِ هَذَا الْغَرَضِ، لِأَنَّ فِيهِ خَصْلَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ هُمَا الِاقْتِصَادُ فِي إِمْدَادِ الْقُوَى الْحَيَوَانِيَّةِ وَتَعَوُّدُ الصَّبْرِ بِرَدِّهَا عَنْ دَوَاعِيهَا، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْبُلُوغُ إِلَى الْحَدِّ الْأَتَمِّ مِنْ ذَلِكَ مُتَعَذِّرًا كَمَا عَلِمْتَ، حَاوَلَ أَسَاطِينُ الْحِكْمَةِ النَّفْسَانِيَّةِ الْإِقْلَالَ مِنْهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ عَالَجَ الْإِقْلَالَ بِنَقْصِ الْكَمِّيَّاتِ وَهَذَا صَوْمُ الْحُكَمَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَاوَلَهُ مِنْ جَانِبِ نَقْصِ أَوْقَاتِ التَّمَتُّعِ بِهَا وَهَذَا صَوْمُ الْأَدْيَانِ وَهُوَ أَبْلَغُ إِلَى الْقَصْدِ وَأَظْهَرُ فِي مَلَكَةِ الصَّبْرِ، وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ دُرْبَةٌ عَلَى تَرْكِ شَهَوَاتِهِ، فَيَتَأَهَّلُ لِلتَّخَلُّقِ بِالْكَمَالِ فَإِنَّ الْحَائِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَمَالَاتِ وَالْفَضَائِلِ هُوَ ضَعْفُ التَّحَمُّلِ لِلِانْصِرَافِ

عَنْ هَوَاهُ وَشَهَوَاتِهِ:

إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَتْرُكْ طَعَامًا يُحِبُّهُ ... وَلَمْ يَنْهَ قَلْبًا غَاوِيًا حَيْثُ يَمَّمَا

فَيُوشِكُ أَنْ تَلْقَى لَهُ الدَّهْرَ سُبَّةً ... إِذَا ذُكِرَتْ أَمْثَالُهَا تَمْلَأُ الْفَمَا

فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا كَانَ الْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ مِنَ الصَّوْمِ ارْتِيَاضَ النَّفْسِ عَلَى تَرْكِ الشَّهَوَاتِ وَإِثَارَةِ الشُّعُورِ بِمَا يُلَاقِيهِ أَهْلُ الْخَصَاصَةِ مِنْ أَلَمِ الْجُوعِ، وَاسْتِشْعَارَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ أَهْلِ الْجِدَّةِ وَالرَّفَاهِيَةِ وَأَهْلِ الشَّظَفِ فِي أصُول الملذات بني الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشرَاب وَاللَّهْو، فَلَمَّا ذَا اخْتَلَفَتِ الْأَدْيَانُ الْإِلَهِيَّةُ فِي كَيْفيَّة الصّيام وَلماذَا الْتَزَمَتِ الدِّيَانَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فِي كَيْفِيَّتِهِ صُورَةً وَاحِدَةً، وَلَمْ تَكِلْ ذَلِكَ إِلَى الْمُسْلِمِ يَتَّخِذُ لِإِرَاضَةِ نَفْسِهِ مَا يَرَاهُ لَائِقًا بِهِ فِي تَحْصِيلِ الْمَقَاصِدِ الْمُرَادَةِ؟.