قُلْتُ: شَأْنُ التَّعْلِيمِ الصَّالِحِ أَنْ يَضْبُطَ لِلْمُتَعَلِّمِ قَوَاعِدَ وَأَسَالِيبَ تَبْلُغُ بِهِ إِلَى الثَّمَرَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الْمَعَارِفِ الَّتِي يُزَاوِلُهَا فَإِنَّ مُعَلِّمَ الرِّيَاضَةِ الْبَدَنِيَّة يضْبط للتعلم كَيْفِيَّاتٍ مِنَ الْحَرَكَاتِ بِأَعْضَائِهِ وَتَطَوُّرَ قَامَتِهِ انْتِصَابًا وَرُكُوعًا وَقُرْفُصَاءَ، بَعْضُ ذَلِكَ يُثْمِرُ قُوَّةَ عَضَلَاتِهِ وَبَعْضُهَا يُثْمِرُ اعْتِدَالَ الدَّوْرَةِ الدَّمَوِيَّةِ وَبَعْضُهَا يُثْمِرُ وَظَائِفَ شَرَايِينِهِ، وَهِيَ كَيْفِيَّاتٌ حَدَّدَهَا أَهْلُ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ وَأَدْنَوْا بِهَا حُصُولَ الثَّمَرَةِ الْمَطْلُوبَةِ، وَلَوْ وَكَّلَ ذَلِكَ لِلطَّالِبِينَ لَذَهَبَتْ أَوْقَاتٌ طَوِيلَةٌ فِي التَّجَارِبِ وَتَعَدَّدَتِ الْكَيْفِيَّاتُ بِتَعَدُّدِ أَفْهَامِ الطَّالِبِينَ وَاخْتِيَارِهِمْ وَهَذَا يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥] .
وَالْمُرَادُ بِالْأَيَّامِ من فَقَوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ شَهْرُ رَمَضَانَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ رَمَضَانَ بِأَيَّامٍ وَهِيَ جَمْعُ قِلَّةٍ وَوَصَفَ بِمَعْدُودَاتٍ وَهِيَ جَمْعُ قِلَّةٍ أَيْضًا تَهْوِينًا لِأَمْرِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، وَالْمَعْدُودَاتُ كِنَايَةٌ عَنِ الْقِلَّةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْقَلِيلَ يُعَدُّ عَدًّا وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: الْكَثِيرُ لَا يُعَدُّ، وَلِأَجْلِ هَذَا اخْتِيرَ فِي وَصْفِ الْجَمْعِ مَجِيئُهُ فِي التَّأْنِيثِ عَلَى طَرِيقَةِ الْجَمْعِ بِأَلِفٍ وَتَاءٍ وَإِنْ كَانَ مَجِيئُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْجَمْعِ الْمُكَسَّرِ الَّذِي فِيهِ هَاءُ تَأْنِيثٍ أَكْثَرَ.
قَالَ أَبُو حَيَّانَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى الْآتِي بَعْدَهُ: مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥] صِفَةُ الْجَمْعِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ تَارَةً تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَة: ٨٠] وَتَارَةً تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ نَحْوَ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَعْدُودَاتٌ جَمْعٌ لِمَعْدُودَةٍ، وَأَنْتَ لَا تَقُولُ يَوْمٌ مَعْدُودَةٌ وَكِلَا الِاسْتِعْمَالَيْنِ فَصِيحٌ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ تُرِكَ فِيهِ تَحْقِيقًا وَذَلِكَ أَنَّ الْوَجْهَ فِي الْوَصْفِ الْجَارِي عَلَى جَمْعٍ مُذَكَّرٍ إِذَا أَنَّثُوهُ أَنْ يَكُونَ مُؤَنَّثًا مُفْرَدًا، لِأَنَّ الْجَمْعَ قَدْ أُوِّلَ بِالْجَمَاعَةِ وَالْجَمَاعَةُ كَلِمَةٌ مُفْرَدَةٌ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا
التَّنْبِيهَ عَلَى كَثْرَةِ ذَلِكَ الْجَمْعِ أَجْرَوْا وَصْفَهُ عَلَى صِيغَةِ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ لِيَكُونَ فِي مَعْنَى الْجَمَاعَاتِ وَأَنَّ الْجَمْعَ يَنْحَلُّ إِلَى جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلِذَلِكَ فَأَنَا أَرَى أَنَّ مَعْدُودَاتٍ أَكْثَرُ مِنْ مَعْدُودَةٍ وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَة: ٨٠] لِأَنَّهُمْ يُقَلِّلُونَهَا غُرُورًا أَوْ تَغْرِيرًا، وَقَالَ هُنَا مَعْدُوداتٍ لِأَنَّهَا ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [الْبَقَرَة: ١٩٧] وَهَذَا مِثْلَ قَوْلِهِ فِي جمع جمل جِمالَتٌ [المرسلات: ٣٣] عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ جِمَالٍ، وَعَنِ الْمَازِنِيِّ أَنَّ الْجَمْعَ لِمَا لَا يَعْقِلُ يَجِيءُ الْكَثِيرُ مِنْهُ بِصِيغَةِ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ تَقُولُ: الْجُذُوعُ انْكَسَرَتْ وَالْقَلِيلُ مِنْهُ يَجِيءُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَقول: الأجذاع انكسرن اهـ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْأَيَّامِ غَيْرُ رَمَضَانَ بَلْ هِيَ أَيَّامٌ وَجَبَ صَوْمُهَا على الْمُسلمين عِنْد مَا فُرِضَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute