للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يُفْطِرُ يَوْمَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ، فَإِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ، وَبَالَغَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالَ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ كِنَانَةَ وَالْمَخْزُومِيِّ، وَمِنَ الْعَجَبِ اخْتِيَارُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ إِيَّاهُ، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لِأَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَهُ الْفِطْرَ بِنَصِّ الْكِتَابِ، وَلَقَدْ أَجَادَ أَبُو عُمَرَ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالشَّعْبِيُّ: يُفْطِرُ إِذَا سَافَرَ بَعْدَ الصُّبْحِ

وَرَوَوْهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي «صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ» «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَرَفَعَهُ إِلَى يَدَيْهِ لِيُرِيَهُ فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ»

، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ فَسَقَطَ مَا يُخَالِفُهُ.

وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَلَمْ يَقُلْ: فَصِيَامُ أَيَّامٍ أُخَرَ، تَنْصِيصًا عَلَى وُجُوبِ صَوْمِ أَيَّامٍ بِعَدَدِ أَيَّامِ الْفِطْرِ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ إِذِ الْعَدَدُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مِقْدَارٍ مُمَاثِلٍ. فَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ إِنِ اعْتُبِرَ أَيَّامٍ أَعَمَّ مِنْ أَيَّامِ الْعِدَّةِ أَيْ مِنْ أَيَّامِ الدَّهْرِ أَوِ السَّنَةِ، أَوْ تَكُونُ مِنْ تَمْيِيزَ عِدَّةٌ أَيْ عِدَّةٌ هِيَ أَيَّامٌ مِثْلَ قَوْلِهِ: بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [آل عمرَان:

١٢٥] .

وَوَصَفَ الْأَيَّامَ بِأُخَرَ وَهُوَ جَمْعُ الْأُخْرَى اعْتِبَارًا بِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ إِذْ كُلُّ جَمْعٍ مُؤَنَّثٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى آنِفًا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَاخْتِيرَ فِي الْوَصْفِ صِيغَةُ الْجَمْعِ دُونَ أَنْ يُقَالَ أُخْرَى لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ وَصْفٌ لِعِدَّةٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ هَذَا الظَّنَّ لَا يُوقِعُ فِي لَبْسٍ لِأَنَّ عِدَّةَ الْأَيَّامِ هِيَ أَيَّامٌ فَلَا يعتني بِدفع مثل هَذَا الظَّنِّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ

الْعُدُولَ عَنْ أُخْرَى لِمُرَاعَاةِ صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الْمَوْصُوفِ مَعَ طَلَبِ خِفَّةِ اللَّفْظِ.

وَلَفْظُ (أُخَرَ) مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَعَلَّلَ جُمْهُورُ النَّحْوِيِّينَ مَنْعَهُ مِنَ الصَّرْفِ عَلَى أُصُولِهِمْ بِأَنَّ فِيهِ الْوَصْفِيَّةَ وَالْعَدْلَ، أما الوصفية ظَاهِرَة وَأما الْعَدْلُ فَقَالُوا: لَمَّا كَانَ جَمْعُ آخَرَ وَمُفْرَدُهُ بِصِيغَةِ اسْمِ التَّفْضِيلِ وَكَانَ غَيْرَ مُعَرَّفٍ بِاللَّامِ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَلْزَمَ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ جَرْيًا عَلَى سُنَنِ أَصْلِهِ وَهُوَ اسْمُ التَّفْضِيلِ إِذَا جُرِّدَ مِنَ التَّعْرِيفِ بِاللَّامِ وَمِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى الْمَعْرِفَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ فَلَمَّا نَطَقَ بِهِ الْعَرَبُ مُطَابِقًا لِمَوْصُوفِهِ فِي التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ عَدَلُوا بِهِ عَنْ أَصْلِهِ (وَالْعُدُولُ عَنِ الْأَصْلِ يُوجِبُ الثِّقَلَ عَلَى اللِّسَانِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادِ الِاسْتِعْمَالِ) فَخَفَّفُوهُ لِمَنْعِهِ مِنَ الصَّرْفِ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فِي تَثْنِيَتِهِ وَجَمْعِهِ بِالْأَلِفِ وَالنُّونِ لِقِلَّةِ وُقُوعِهِمَا، وَفِيهِ مَا فِيهِ.