للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَلَمْ تُبَيِّنِ الْآيَةُ صِفَةَ قَضَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ، فَأَطْلَقَتْ (عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخُرَ) ، فَلَمْ تُبَيِّنْ أَتَكُونُ مُتَتَابِعَةً أَمْ يَجُوزُ تَفْرِيقُهَا؟ وَلَا وُجُوبَ الْمُبَادَرَةِ بِهَا أَوْ جَوَازَ تَأْخِيرِهَا، وَلَا وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْفِطْرِ مُتَعَمِّدًا فِي بَعْضِ أَيَّامِ الْقَضَاءِ، وَيَتَجَاذَبُ النَّظَرُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ دَلِيلُ التَّمَسُّكِ بِالْإِطْلَاقِ لِعَدَمِ وُجُودِ مَا يُقَيِّدُهُ كَمَا يُتَمَسَّكُ بِالْعَامِّ إِذَا لَمْ يَظْهَرِ الْمُخَصِّصُ، وَدَلِيلٌ أَنَّ الْأَصْلَ فِي قَضَاءِ الْعِبَادَةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَةِ الْعِبَادَةِ الْمَقْضِيَّةِ.

فَأَمَّا حُكْمُ تَتَابُعِ أَيَّامِ الْقَضَاءِ، فَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَتْ عَائِشَةُ نَزَلَتْ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ فَسَقَطَتْ مُتَتَابِعَاتٍ، تُرِيدُ نُسِخَتْ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَتِلْكَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَلِأَجْلِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا أَطْلَقَ قَوْلَهُ: مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِالتَّتَابُعِ كَمَا قَالَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَفِي كَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَأِ. فَلِذَلِكَ أَلْغَى الْجُمْهُورُ إِعْمَالَ قَاعِدَةِ جَرَيَانِ قَضَاءِ الْعِبَادَةِ عَلَى صِفَةِ الْمَقْضِيِّ وَلَمْ يُقَيِّدُوا مُطْلَقَ آيَةِ قَضَاءِ الصَّوْمِ بِمَا قُيِّدَتْ بِهِ آيَةُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَكَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَأِ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ يَقُولُ: يَصُومُ قَضَاءَ رَمَضَانَ مُتَتَابِعًا مَنْ أَفْطَرَهُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ، قَالَ الْبَاجِيُّ فِي «الْمُنْتَقَى» : يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْوُجُوبَ وَأَنْ يُرِيدَ الِاسْتِحْبَابَ.

وَأَمَّا الْمُبَادَرَةُ بِالْقَضَاءِ، فَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ مَا يَقْتَضِيهَا، وَقَوْلُهُ هُنَا:

فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُرَادٌ بِهِ الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ، وَأَصْلُ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَمَضَتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ لَا يَجِبُ فِيهِ الْفَوْرُ بَلْ هُوَ مُوَسَّعٌ إِلَى شَهْرِ شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ الْمُوَالِيَةِ لِلشَّهْرِ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ، وَفِي «الصَّحِيحِ» عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا

أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلَّا فِي شَعْبَانَ. وَهَذَا وَاضِحُ الدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْفَوْرِ، وَبِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَشَذَّ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ فَقَالَ: يُشْرَعُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ ثَانِي يَوْم من شَوَّالٍ الْمُعَاقِبِ لَهُ.

وَأَمَّا مَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ قَضَاءِ رَمَضَانَ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ شُرِعَتْ حِفْظًا لِحُرْمَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَيْسَ لِأَيَّامِ الْقَضَاءِ حُرْمَةٌ وَقَالَ قَتَادَةُ:

تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الْعِبَادَةِ يُسَاوِي أَصْلَهُ.