للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.

اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَمَّا يَجُولُ فِي خَوَاطِرِ كَثِيرٍ مِنَ السَّامِعِينَ مِنْ أَنَّهُمْ تَأَخَّرُوا عَنِ الْإِنْفَاقِ غَيْرَ نَاوِينَ تَرْكَهُ وَلَكِنَّهُمْ سَيَتَدَارَكُونَهُ.

وَأُدْمِجَ فِيهِ تَفْضِيلُ جِهَادِ بَعْضِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى بَعْضٍ لِمُنَاسَبَةِ كَوْنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَشْمَلُ إِنْفَاقَ الْمُجَاهِدِ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْعُدَّةِ وَالزَّادِ وَإِنْفَاقَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْ عُدَّتَهُ وَلَا زَادَهُ، وَلِأَنَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ وَلَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْفَاقَ، فَأُرِيدَ أَنْ لَا يُغْفِلَ ذِكْرَهُ فِي عِدَادِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ إِذِ الْإِنْفَاقُ فِيهَا وَسِيلَةٌ لَهَا.

وَظَاهِرُ لَفْظِ الْفَتْحِ أَنَّهُ فَتْحُ مَكَّةَ فَإِنَّ هَذَا الْجِنْسَ الْمُعَرَّفَ صَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ.

وَإِنَّمَا كَانَ الْمُنْفِقُونَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَالْمُجَاهِدُونَ قَبْلَهُ أَعْظَمَ دَرَجَةً فِي إِنْفَاقِهِمْ وَجِهَادِهِمْ لِأَنَّ الزَّمَانَ الَّذِي قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ كَانَ زَمَانَ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ كَانُوا أَكْثَرَ الْعَرَبِ فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ دَخَلَتْ سَائِرُ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ فِي الْإِسْلَامِ فَكَانَ الْإِنْفَاقُ وَالْجِهَادُ فِيمَا قَبْلَ الْفَتْحِ أَشَقَّ عَلَى نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ لِقِلَّةِ ذَاتِ أَيْدِيهِمْ وَقِلَّةِ جَمْعِهِمْ قُبَالَةَ جَمْعِ الْعَدُوِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَثْبُتُوا أَمَامَ الْعَدُوِّ إِذَا كَانَ عَدَدُ الْعَدُوِّ عَشْرَةَ أَضْعَافِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقِتَالِ قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الْأَنْفَال: ٦٥] .

وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ: صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ. وَيُؤَيِّدهُ مَا

رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ»

وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِكَوْنِ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْضُهَا مَكِّيٌّ وَبَعْضُهَا مَدَنِيٌّ فَيَقْتَضِي أَنَّ مَدَنِيَّهَا قَرِيبُ عَهْدٍ مِنْ مُدَّةِ إِقَامَتِهِمْ بِمَكَّةَ، وَإِطْلَاقُ الْفَتْحِ عَلَى صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَارِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً

[الْفَتْح: ١] .