وَلَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى رَأْفَةً وَرَحْمَةً لِأَنَّ هَذِهِ الرَّهْبَانِيَّةَ لَمْ تَكُنْ مِمَّا شَرَعَ اللَّهُ لَهُمْ فَلَا يَسْتَقِيمُ كَوْنُهَا مَفْعُولًا لِ جَعَلْنا، وَلِأَنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ عَمَلٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُلُوبِ وَفِعْلُ جَعَلْنا مُقَيَّدٌ بِ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فَتَكُونُ مَفْعُولَاتُهُ مُقَيَّدَةً بِذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يُتَأَوَّلَ جَعْلُهَا فِي الْقُلُوبِ بِجَعْلِ حُبِّهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [الْبَقَرَة: ٩٣] .
وَعَلَى اخْتِيَارِ هَذَا الْإِعْرَابِ مَضَى الْمُحَقِّقُونَ مِثْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَالزَّجَّاجِ وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالْقُرْطُبِيِّ. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى رَأْفَةً وَرَحْمَةً. وَاتَّهَمَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا الْإِعْرَابَ بِأَنَّهُ إِعْرَابُ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالَ: «وَالْمُعْتَزِلَةُ تُعْرِبُ رَهْبانِيَّةً أَنَّهَا نَصْبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ ابْتَدَعُوها وَيَذْهَبُونَ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ فَيُعْرِبُونَ الْآيَةَ عَلَى هَذَا» اه. وَلَيْسَ فِي هَذَا الْإِعْرَابِ حُجَّةٌ لَهُمْ وَلَا فِي إِبْطَالِهِ نَفْعٌ لِمُخَالَفَتِهِمْ كَمَا عَلِمْتَ.
وَإِنَّمَا عُطِفَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى جُمْلَةِ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ لْاشْتِرَاكِ مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي أَنَّهُ مِنَ الْفَضَائِلِ الْمُرَادِ بِهَا رضوَان الله.
وَالْمعْنَى: وَابْتَدَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ رَهْبَانِيَّةً مَا شَرَعْنَاهَا لَهُمْ وَلَكِنَّهُمُ ابْتَغَوْا بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ فَقَبِلَهَا اللَّهُ مِنْهُمْ لِأَنَّ سِيَاقَ حِكَايَةِ ذَلِكَ عَنْهُمْ يَقْتَضِي الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ فِي أَحْوَالِهِمْ.
وَضَمِيرُ الرَّفْعِ مِنِ ابْتَدَعُوهَا عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ اتَّبَعُوا عِيسَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمُ ابْتَدَعُوا الْعَمَلَ بِهَا فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُمُ اخْتَرَعَ أُسْلُوبَ الرَّهْبَانِيَّةِ وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ سَنَّهَا وَتَابَعَهُ بَقِيَّتُهُمْ.
وَالَّذين اتَّبَعُوهُ صَادِقٌ عَلَى مَنْ أَخَذُوا بِالنَّصْرَانِيَّةِ كُلِّهِمْ، وَأَعْظَمُ مَرَاتِبِهِمْ هُمُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِسِيرَتِهِ اهْتِدَاءً كَامِلًا وَانْقَطَعُوا لَهَا وَهُمُ الْقَائِمُونَ بِالْعِبَادِةِ.
وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ جَعْلَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ فِي قُلُوبِهِمْ مُتَسَبِّبٌ عَنِ اتِّبَاعِهِمْ سِيرَتَهُ وَانْقِطَاعِهِمْ إِلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ ابْتَدَعُوها، وَقَوْلُهُ: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute