وَفِي تَقْدِيمِ مانِعَتُهُمْ وَهُوَ وَصْفٌ عَلَى حُصُونُهُمْ وَهُوَ اسْمٌ وَالِاسْمُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ أَوْلَى بِأَن يَجْعَل فِي مرتبَة الْمُبْتَدَأِ وَيُجْعَلَ الْوَصْفُ خَبَرًا عَنْهُ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَهَمِّيَّةِ مَنَعَةِ الْحُصُونِ عِنْدَ ظَنِّهِمْ فَهِيَ بِمَحْلِّ التَّقْدِيمِ فِي اسْتِحْضَارِ ظَنِّهِمْ، وَلَا عِبْرَةَ بِجَوَازِ جَعْلِ حُصُونِهِمْ فَاعِلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَهُوَ مانِعَتُهُمْ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ مُعْتَمِدٌ عَلَى مُسْنَدٍ إِلَيْهِ لِأَنَّ مَحَامِلَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ تَجْرِي عَلَى وُجُوهِ التَّصَرُّفِ فِي دَقَائِقَ الْمَعَانِي فَيَصِيرُ الْجَائِزُ مَرْجُوحًا. قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي شَرْحِ (بَابِ النَّسَبِ) قَوْلُ الشَّاعِرِ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى ذِي الرُّمَّةِ فِي غَيْرِ دِيوَانِ الْحَمَاسَةِ:
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مُعَرَّجُ سَاعَةٌ ... قَلِيلًا فَإِنِّي نَافِعٌ لِي قَلِيلُهَا
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (قليلها) مُبْتَدأ و (نَافِع) خَبَرٌ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ- أَيْ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ-.
وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ (إِنَّ) وَالتَّقْدِيرُ: إِنِّي قَلِيلُهَا نَافِعٌ لِي.
فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصارِ.
تَفْرِيعٌ عَلَى مَجْمُوعِ جُمْلَتَيْ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ اللَّتَيْنِ هَمَا تَعْلِيلٌ لِلْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ.
وَتَرْكِيبُ (فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) تَمْثِيلٌ، مُثِّلَ شَأْنُ اللَّهِ حِينَ يَسَّرَ أَسْبَابَ اسْتِسْلَامِهِمْ بَعْدَ أَنْ صَمَّمُوا عَلَى الدِّفَاعِ وَكَانُوا أَهْلَ عِدَّةٍ وَعُدَّةٍ وَلَمْ يَطُلْ حِصَارُهُمْ بِحَالِ مَنْ أَخَذَ حَذَرَهُ مِنْ عَدُوِّهِ وَأَحْكَمَ حِرَاسَتَهُ مِنْ جِهَاتِهِ فَأَتَاهُ عَدْوُهُ مِنْ جِهَةٍ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَقَامَ حِرَاسَةً فِيهَا. وَهَذَا يُشْبِهُ التَّمْثِيلَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ [النُّور: ٣٩] .
وَالِاحْتِسَابُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْحُسْبَانِ، أَيِ الظَّنِّ أَيْ مِنْ مَكَانٍ لَمْ يَظُنُّوهُ لِأَنَّهُمْ قَصَرُوا اسْتِعْدَادَهُمْ عَلَى التَّحَصُّنِ وَالْمَنَعَةِ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ قُوَّةَ اللَّهِ فَوْقَ قُوَّتِهِمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute