للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا أَحْسَنُ الْوُجُوهِ، وَإِنْ قَلَّ قَائِلُوهُ. وَالْجُمْهُورُ يَجْعَلُونَ النَّصْبَ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ سَمَاعِيًّا فَهُوَ عِنْدَهُمْ قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ فَتَجَنَّبُوا تَخَرِيجَ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ حَتَّى ادَّعَى ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الْقُرْآن بِيَقِين. وَتَأَول قَوْلُهُ تَعَالَى:

فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ [يُونُس: ٧١] ، ذَلِك لِأَن جُمْهُور الْبَصرِيين يَشْتَرِطُونَ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي الْمَفْعُولِ مَعَهُ هُوَ الْعَامِلَ فِي الِاسْمِ الَّذِي صَاحَبَهُ وَلَا يَرَوْنَ وَاوَ الْمَعِيَّةِ نَاصِبَةَ الْمَفْعُولِ مَعَهُ خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ وَالْأَخْفَشِ فَإِنَّ الْوَاوَ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى (مَعَ) . وَقَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ:

مَنْصُوبٌ بِالْوَاوِ.

وَالْحَقُّ عَدَمُ الْتِزَامِ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مَعَهُ مَعْمُولًا لِلْفِعْلِ، أَلَا تَرَى صِحَّةَ قَوْلِ الْقَائِلِ:

اسْتَوَى الْمَاءُ وَالْخَشَبَةُ. وَقَوْلُهُمْ: سِرْتُ وَالنِّيلُ، وَهُوَ يُفِيدُ الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ دَارَ الْهِجْرَةِ دَارُهُمْ آوَوْا إِلَيْهَا الْمُهَاجِرِينَ لِأَنَّهَا دَارُ مُؤْمِنِينَ لَا يُمَاثِلُهَا يَوْمَئِذٍ غَيْرُهَا.

وَبِذَلِكَ يَتَّضِحُ أَنَّ مُتَعَلِّقَ مِنْ قَبْلِهِمْ فعل تَبَوَّؤُا بِمُفْرَدِهِ، وَأَنَّ الْمَجْرُورَ الْمُتَعَلِّقَ بِهِ قُيِّدَ فِيهِ دُونَ مَا ذِكْرٍ بَعْدَ الْوَاوِ لِأَنَّ الْوَاوَ لَيْسَتْ وَاوَ عَطْفٍ فَلِذَلِكَ لَا تَكُونُ قَائِمَةً مَقَامَ الْفِعْلِ السَّابِقِ لِأَنَّ وَاوَ الْمَعِيَّةِ فِي مَعْنَى ظَرْفٍ فَلَا يُعَلَّقُ بِهَا مَجْرُورٌ.

وَفِي ذِكْرِ الدَّارِ (وَهِيَ الْمَدِينَةِ) مَعَ ذِكْرِ الْإِيمَانِ إِيمَاءٌ إِلَى فَضِيلَةِ الْمَدِينَةِ بِحَيْثُ جَعَلَ تَبَوُّءَهُمُ الْمَدِينَةَ قَرِينَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي عَنَاهُ مَالِكٌ رَحْمَهُ اللَّهُ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَذْكُرُ فَضْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْآفَاقِ. فَقَالَ:

إِنَّ الْمَدِينَةَ تُبُوِّئَتْ بِالْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ وَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْقُرَى افْتُتِحَتْ بِالسَّيْفِ ثُمَّ قَرَأَ: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ الْآيَةَ.

وَجُمْلَةُ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ حَالٌ من الَّذين تبوّؤوا الدَّار، وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ بِمَا تَقَرَّرَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ إِذْ أَحَبُّوا الْمُهَاجِرِينَ، وَشَأْنُ الْقَبَائِلِ أَنْ يَتَحَرَّجُوا مِنَ الَّذِينَ يُهَاجِرُونَ إِلَى دِيَارِهِمْ لِمُضَايَقَتِهِمْ.

وَمِنْ آثَارِ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ مَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» مِنْ خَبَرِ سعد بن الربيح مَعَ عبد الرحمان بْنِ عَوْفٍ إِذْ عَرَضَ سَعْدٌ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاسِمَهُ مَالَهُ وَأَنْ يَنْزِلَ لَهُ عَنْ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ، وَقَدْ أَسْكَنُوا الْمُهَاجِرِينَ مَعَهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ وَمَنَحُوهُمْ مِنْ نَخِيلِهِمْ، وَحَسْبُكَ الْأُخُوَّةُ الَّتِي آخى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.