وَقَوْلُهُ: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا أُرِيدَ بِالْوُجْدَانِ الْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ، وَكَنَّى بِانْتِفَاءِ وجدان الْحَاجة عَن انْتِفَاءِ وُجُودِهَا لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً لَأَدْرَكُوهَا فِي نُفُوسِهِمْ وَهَذَا مِنْ بَابِ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ وَالْحَاجَةُ فِي الْأَصْلِ: اسْمُ مَصْدَرِ الْحَوْجِ وَهُوَ الِاحْتِيَاجُ، أَيْ الِافْتِقَارُ إِلَى شَيْءٍ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْأَمْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَهِيَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْمَأْرَبِ وَالْمُرَادِ، وَإِطْلَاقُ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَأْرَبِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ سَاوَى الْحَقِيقَةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ [غَافِر: ٨٠] ، أَيْ لِتَبْلُغُوا فِي السَّفَرِ عَلَيْهَا الْمَأْرَبَ الَّذِي تُسَافِرُونَ لِأَجْلِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها [يُوسُف: ٦٨] أَيْ مَأْرَبًا مُهِمًّا وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
أَيَّامَ تُخْبِرْنِي نُعْمُ وَأُخْبِرُهَا ... مَا أَكْتُمُ النَّاسَ مِنْ حَاجِي وَإِسْرَارِي
وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا أُوتُوا ابْتِدَائِيَّةً، أَيْ مَأْرَبًا أَوْ رَغْبَةً نَاشِئَةً مِنْ فَيْءٍ أُعْطِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ. وَالصُّدُورُ مُرَادٌ بِهَا النُّفُوسُ جَمْعُ الصَّدْرِ وَهُوَ الْبَاطِنُ الَّذِي فِيهِ الْحَوَاسُّ الْبَاطِنَةُ وَذَلِكَ كَإِطْلَاقِ الْقَلْبِ على ذَلِك.
و (مَا أُوتُوا) هُوَ فَيْءُ بَنِي النَّضِيرِ.
وَضَمِيرُ صُدُورِهِمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ، وَضَمِيرُ أُوتُوا عَائِدٌ إِلَى مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَنْ هَاجَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فَرُوعِيَ فِي ضَمِيرِ مَعْنَى (مِنْ)
بِدُونِ لَفْظِهَا. وَهَذَانَ الضَّمِيرَانِ وَإِنْ كَانَا ضَمِيرَيْ غَيْبَةٍ وَكَانَا مُقْتَرِبَيْنِ فَالسَّامِعُ يَرُدُّ كُلَّ ضَمِيرٍ إِلَى مُعَادِهِ بِحَسَبِ السِّيَاقِ مِثْلَ (مَا) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها
فِي سُورَةِ الرُّومِ [٩] . وَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ يَذْكُرُ انْتِصَارَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ قَوْمِهِ بَنِي سُلَيْمٍ عَلَى هَوَازِنَ:
عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ ... بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَعُوا
(أَيْ أَحْرَزَ جَيْشُ هَوَازِنَ مَا جَمَعَهُ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ) .
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُخَامِرُ نُفُوسَهُمْ تَشَوُّفٌ إِلَى أَخْذِ شَيْءٍ مِمَّا أُوتِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ.