وَيَجُوزُ وَجْهٌ آخَرُ بِأَنْ يُحْمَلَ لَفْظُ حَاجَةٍ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ الْحَقِيقِيِّ اسْمُ مَصْدَرِ الِاحْتِيَاجِ فَإِنَّ الْحَاجَّةَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَصِحُّ وُقُوعُهَا فِي الصُّدُورِ لِأَنَّهَا مِنَ الْوِجْدَانِيَّاتِ وَالِانْفِعَالَاتِ.
وَمَعْنَى نَفْيِ وُجْدَانِ الِاحْتِيَاجِ فِي صُدُورِهِمْ أَنَّهُمْ لِفَرْطِ حُبِّهِمْ لِلْمُهَاجِرِينَ صَارُوا لَا يُخَامِرُ نُفُوسَهُمْ أَنَّهُمْ مُفْتَقِرُونَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا يُؤْتَاهُ الْمُهَاجِرُونَ، أَي فهم أَغْنِيَاء عَمَّا يؤتاه الْمُهَاجِرُونَ فَلَا تستشرف نُفُوسهم إِلَى شَيْء مِمَّا يؤتاه الْمُهَاجِرُونَ بَلْهَ أَنْ يَتَطَلَّبُوهُ.
وَتَكُونُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا أُوتُوا لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ حَاجَةٌ لِأَجْلِ مَا أُوتِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ، أَوِ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ حَاجَةٌ نَاشِئَةٌ عَمَّا أُوتِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ فَيُفِيدُ انْتِفَاءَ وُجْدَانِ الْحَاجَةِ فِي نُفُوسِهِمْ وَانْتِفَاءِ أَسْبَابِ ذَلِكَ الْوُجْدَانِ وَمَنَاشِئِهِ الْمُعْتَادَةِ فِي النَّاسِ تَبَعًا لِلْمُنَافَسَةِ وَالْغِبْطَةِ، وَقَدْ دَلَّ انْتِفَاءُ أَسْبَابِ الْحَاجَةِ عَلَى مُتَعَلِّقِ حَاجَةِ الْمَحْذُوفِ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَلَا يَجِدُونَ فِي نُفُوسِهِمْ حَاجَةً لِشَيْءٍ أُوتِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ.
وَالْإِيثَارُ: تَرْجِيحُ شَيْءٍ عَلَى غَيْرِهِ بِمَكْرَمَةٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ.
وَالْمَعْنَى: يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُمْ وَهَذَا أَعْلَى دَرَجَةً مِمَّا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا فَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَفْعُولَ يُؤْثِرُونَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: مِمَّا أُوتُوا عَلَيْهِ.
وَمِنْ إِيثَارِهِمُ الْمُهَاجِرِينَ مَا
رُوِيَ فِي «الصَّحِيحِ» أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا الْأَنْصَارَ لِيَقْطَعَ لَهُمْ قَطَائِعَ بِنَخْلِ الْبَحْرَيْنِ فَقَالُوا: لَا إِلَّا أَنْ تَقْطَعَ لِإِخْوَانِنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِثْلَهَا
. وَإِمَّا إِيثَارُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ عَلَى غَيْرِهِ مِنْهُمْ فَمَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَنِيَ الْجَهْدُ. فَأَرْسَلَ فِي نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئًا فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا رَجُلٌ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مَنِ الْأَنْصَارِ (هُوَ
أَبُو طَلْحَةَ) فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَذَا ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ لَا تَدَّخِرِيهِ شَيْئًا، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا عِنْدِي إِلَّا قُوتُ الصِّبْيَةِ. قَالَ: فَإِذَا أَرَادَ الصِّبْيَةُ الْعَشَاءَ فَنَوِّمِيهِمْ وَتَعَالَيْ فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَنَطْوِي بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ. فَإِذَا دَخَلَ الضَّيْفُ فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ فَقَوْمِي إِلَى السِّرَاجِ تُرِي أَنَّكِ تُصْلِحِينَهُ فَأَطْفِئِيهِ وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ. فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ.