للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَزَعَمَ أَنَّ آيَاتٍ مُتَقَارِنَةً بَعْضَهَا نَسَخَ بَعْضًا مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْآيَاتِ الْمُتَقَارِنَةَ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ نَزَلَتْ كَذَلِكَ وَمَعَ مَا فِي هَاتِهِ الْآيَاتِ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ الْمَانِعَةِ مِنْ دَعْوَى كَوِنِ بَعْضِهَا قَدْ نَزَلَ مُسْتَقِلًّا عَنْ سَابِقِهِ وَلَيْسَ هُنَا مَا يُلْجِئُ إِلَى دَعْوَى النَّسْخِ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى تَفْسِيرِ الْمُفْرَدَاتِ اللُّغَوِيَّةِ وَالتَّرَاكِيبِ الْبَلَاغِيَّةِ وَأَعْرَضَ عَنْ بَيَانِ الْمَعَانِي الْحَاصِلَةِ مِنْ مَجْمُوعِ هَاتِهِ الْآيَاتِ.

وَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ وَالْقَتْلِ لِلْمُقَاتِلِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَمْ يَعْبَأْ بِمَا جَعَلَهُ لِهَذَا الْمَسْجِدِ مِنَ الْحُرْمَةِ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ حُرْمَةُ نِسْبَتِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَمَّا كَانَ قِتَالُ الْكُفَّارِ عِنْدَهُ قِتَالًا لِمَنْعِ النَّاسِ مِنْهُ وَمُنَاوَاةً لِدِينِهِ فَقَدْ صَارُوا غَيْرَ مُحْتَرِمِينَ لَهُ وَلِذَلِكَ أَمَرَنَا بِقِتَالِهِمْ هُنَالِكَ تَأْيِيدًا لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ) ثَلَاثَتُهَا بِأَلِفٍ بَعْدَ الْقَافِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (وَلَا تَقْتُلُوهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوكُمْ فَإِنْ قَتَلُوكُمْ) بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ

الْقَافِ، فَقَالَ الْأَعْمَشُ لِحَمْزَةَ أَرَأَيْتَ قِرَاءَتَكَ هَذِهِ كَيْفَ يَكُونُ الرَّجُلُ قَاتِلًا بَعْدَ أَنْ صَارَ مَقْتُولًا؟ فَقَالَ حَمْزَةُ: إِنَّ الْعَرَبَ إِذَا قُتِلَ مِنْهُمْ رَجُلٌ قَالُوا قتلنَا اهـ يُرِيدُ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مِنَ الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ:

غَضِبَتْ تَمِيمٌ أَنْ تُقَتَّلَ عَامِرٌ ... يَوْمَ النِّسَارِ فَأُعْتِبُوا بِالصَّيْلَمِ

وَالْمَعْنَى وَلَا تَقْتُلُوا أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوا بَعْضَكُمْ فَإِنْ قَتَلُوا بَعْضَكُمْ فَاقْتُلُوا مَنْ تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَكَذَلِكَ إِسْنَادُ (قَتَلُوا) إِلَى ضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ بِمَعْنَى قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسْنِدُ فِعْلَ بَعْضِ الْقَبِيلَةِ أَوِ الْمِلَّةِ أَوِ الْفِرْقَةِ لِمَا يَدُلُّ عَلَى جَمِيعِهَا مِنْ ضَمِيرٍ كَمَا هُنَا أَوِ اسْمٍ ظَاهِرٍ نَحْوَ قَتَلَتْنَا بَنُو أَسَدٍ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ الْقَتْلُ فَيَشْمَلُ الْقَتْلَ بِاشْتِبَاكِ حَرْبٍ وَالْقَتْلُ بِدُونِ مَلْحَمَةٍ.

وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ بِالنَّصِّ عَلَى إِبَاحَةِ قَتْلِ الْمُحَارِبِ إِذَا حَارَبَ فِي الْحَرَمِ أَوِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ مُقَاتَلَةٌ فَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَوْلَى عَلَى مَكَّةَ عَدُوٌّ وَقَالَ: لَا أُقَاتِلُكُمْ وَأَمْنَعُكُمْ مِنَ الْحَجِّ وَلَا أَبْرَحُ مِنْ مَكَّةَ لَوَجَبَ قِتَالُهُ وَإِنْ لم يبْدَأ بِالْقِتَالِ نَقْلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادَ مِنْ مَالِكِيَّةِ الْعِرَاقِ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الْبَقَرَة: ١٩٣] .