وَالْفِتْنَةُ تَقَدَّمَتْ قَرِيبًا. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا كَالْمُرَادِ بِهَا هُنَالِكَ، وَلَمَّا وَقَعَتْ هُنَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ عَمَّتْ جَمِيعَ الْفِتَنِ فَلِذَلِكَ سَاوَتِ الْمَذْكُورَةُ هُنَا الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [الْبَقَرَة: ١٩١] فَإِعَادَةُ الْفِتْنَةِ مُنَكَّرَةً هُنَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ كَمَا هُوَ الشَّائِعُ بَيْنَ الْمُعْرِبِينَ فِي أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إِذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً فَهِيَ غَيْرُ الْأُولَى لِأَنَّ وُقُوعَهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَفَادَ الْعُمُومَ فَشَمَلَ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْفِتْنَةِ مُسَاوِيًا لِلْفِتْنَةِ الْمُعَرَّفَةِ بِلَامِ الِاسْتِغْرَاقِ إِلَّا أَنَّهُ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ فَتَقَيَّدَ بِثَلَاثَةِ قُيُودٍ بِالْقَرِينَةِ أَيْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ مِنْهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَإِلَّا فَقَدَ وَقَعَتْ فِتَنٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ كَمَا
فِي حَدِيثِ: «ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ»
. وَانْتِفَاءُ الْفِتْنَةِ يَتَحَقَّقُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بِأَنْ يَدْخُلَ الْمُشْرِكُونَ فِي الْإِسْلَام فتنزل فِتْنَتُهُمْ فِيهِ، وَإِمَّا بِأَنْ يُقْتَلُوا جَمِيعًا فَتَزُولَ الْفِتْنَةُ بِفَنَاءِ الْفَاتِنِينَ. وَقَدْ يُفْرَضُ انْتِفَاءُ الْفِتْنَةِ بِظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ وَمَصِيرِ الْمُشْرِكِينَ ضُعَفَاءَ أَمَامَ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، بِحَيْثُ يَخْشَوْنَ بَأْسَهُمْ، إِلَّا أَنَّ الْفِتْنَةَ لَمَّا كَانَتْ نَاشِئَةً عَنِ التَّصَلُّبِ فِي دِينِهِمْ وَشِرْكِهِمْ لَمْ تَكُنْ بِالَّتِي تَضْمَحِلُّ عِنْدَ ضَعْفِهِمْ، لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى إِرْضَاءِ الْعَقِيدَةِ يَصْدُرُ حَتَّى مِنَ الضَّعِيفِ كَمَا صَدَرَ مِنَ الْيَهُودِ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي الْمَدِينَةِ فِي مِثْلِ قِصَّةِ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ، وَقَتْلِهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ الْحَارِثِيَّ فِي خَيْبَرَ، وَلِذَلِكَ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا إِلَّا أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا دُخُولُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَإِمَّا إِفْنَاؤُهُمْ بِالْقَتْلِ،
وَقَدْ حَصَلَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ فِي الْمُشْرِكِينَ فَفَرِيقٌ أَسْلَمُوا، وَفَرِيقٌ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْغَزَوَاتِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا تقبل من مُشْرِكين الْعَرَبِ الْجِزْيَةُ، وَمِنْ ثَمَّ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْفِتْنَةَ هُنَا بِالشِّرْكِ تَفْسِيرًا بِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْمَعْنَى لَا بِاعْتِبَارِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ.
وَقَوْلُهُ: وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ عَطْفٌ عَلَى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَهُوَ مَعْمُول لِأَن الْمُضْمَرَةِ بَعْدَ (حَتَّى) أَيْ وَحَتَّى يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، أَيْ حَتَّى لَا يَكُونَ دِينٌ هُنَالِكَ إِلَّا لِلَّهِ أَيْ وَحْدَهُ.
فَالتَّعْرِيفُ فِي الدِّينِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، لِأَنَّ الدِّينَ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَوَاهِي الَّتِي لَا أَفْرَادَ لَهَا فِي الْخَارِجِ فَلَا يَحْتَمِلُ تَعْرِيفُهُ مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ.
وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لَامُ الِاخْتِصَاصِ أَيْ حَتَّى يَكُونَ جِنْسُ الدِّينِ مُخْتَصًّا بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرَ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: ٢] ، وَذَلِكَ يَئُولُ إِلَى مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ عَيْنَهُ، إِذْ لَا نَظَرَ فِي مِثْلِ هَذَا لِلْأَفْرَادِ، وَالْمَعْنَى: وَيَكُونَ دِينُ الَّذِينَ تُقَاتِلُونَهُمْ خَالِصًا لِلَّهِ لَا حَظَّ لِلْإِشْرَاكِ فِيهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute