للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَخْلِيصُ بِلَادِ الْعَرَبِ مِنْ دِينِ الشِّرْكِ وَعُمُومُ الْإِسْلَامِ لَهَا لِأَنَّ اللَّهَ اخْتَارَهَا لِأَنْ تَكُونَ قَلْبَ الْإِسْلَامِ وَمَنْبَعَ مَعِينِهِ فَلَا يَكُونُ الْقَلْبُ صَالِحًا إِذَا كَانَ مَخْلُوطَ الْعَنَاصِرِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَثَرًا جَيِّدًا قَالَ: جَاءَ رَجُلَانِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ أَيَّامَ فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَا: إِنَّ النَّاسَ صَنَعُوا مَا تَرَى وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ وَصَاحِبُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟ فَقَالَ: يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي، فَقَالَا: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى:

وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَاتَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ إِمَّا قَتَلُوهُ وَإِمَّا عَذَّبُوهُ حَتَّى كَثُرَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ. وَسَيَأْتِي بَيَانٌ آخَرُ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ.

وَقَوْلُهُ: فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، أَيْ فَإِنِ انْتَهَوْا عَنْ نَقْضِ الصُّلْحِ أَوْ فَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الشِّرْكِ بِأَنْ آمَنُوا فَلَا عُدْوَانَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [الْبَقَرَة: ١٩٠] وَاحْتِيجَ إِلَيْهِ لِبُعْدِ الصِّفَةِ بِطُولِ الْكَلَامِ وَلِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ التَّصْرِيحَ بِأَهَمِّ الْغَايَتَيْنِ مِنَ الْقِتَالِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ آخِرَ الْكَلَامِ نَسَخَ أَوَّلَهُ وَأَوْجَبَ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ فِي كُلِّ حَالٍ.

وَقَوْلُهُ: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ قَائِمٌ مَقَامَ جَوَابِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ عِلَّةُ الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ، وَالْمَعْنَى فَإِنِ انْتَهَوْا عَنْ قِتَالِكُمْ وَلَمْ يَقْدُمُوا عَلَيْهِ فَلَا تَأْخُذُوهُمْ بِالظِّنَّةِ وَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالْقِتَالِ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ ظَالِمِينَ وَإِذْ لَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، وَهُوَ مَجَازٌ بَدِيعٌ.

وَالْعُدْوَانُ هُنَا إِمَّا مَصْدَرُ عَدَا بِمَعْنَى وَثَبَ وَقَاتَلَ أَيْ فَلَا هُجُومَ عَلَيْهِمْ، وَإِمَّا مَصْدَرُ عَدَا بِمَعْنَى ظَلَمَ كَاعْتَدَى فَتَكُونُ تَسْمِيَتُهُ عُدْوَانًا مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِ: عَلَى الظَّالِمِينَ كَمَا سُمِّيَ جَزَاءُ السَّيِّئَةِ بِالسُّوءِ سَيِّئَةً. وَهَذِهِ المشاكلة تقديرية.