فَالْحَقُّ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ دَلِيلًا لِحُكْمِ الْعُمْرَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِهَا: فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ قَالَ مَالِكٌ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَخَّصَ فِي تَرْكِهَا وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ جَابِرِ ابْن عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالنَّخَعِيِّ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ الْجَهْمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى وُجُوبِهِمَا، وَبِه قَالَ عَمْرو ابْن عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الصَّحَابَة وَعَطَاء، وطاووس، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو بُرْدَةَ، وَمَسْرُوقٌ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.
وَدَلِيلُنَا
حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ مِثْلَ الْحَجِّ فَقَالَ:
لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرُوا فَهُوَ أَفْضَلُ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ
، لِأَن عِبَادَةً مِثْلَ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَأَمَرَ بِهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَثْبُتُ وُجُوبُهَا بِتَلْفِيقَاتٍ ضَعِيفَةٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:
لَوْلَا التَّحَرُّجُ وَأَنِّي لَمْ أَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَقُلْتُ: الْعمرَة وَاجِبَة اهـ مَحَلُّ الِاحْتِجَاجِ قَوْلُهُ: لَمْ أَسْمَعْ إِلَخْ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمرَان: ٩٧] وَلَمْ يَذْكُرِ الْعُمْرَةَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ عِبَادَتَانِ وَاجَبَتَانِ هُمَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ. وَلِأَنَّ شَأْنَ الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ أَنْ تَكُونَ مُؤَقَّتَةً.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا أَيْضًا
بِحَدِيثِ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ»
وَحَدِيثِ جِبْرِيلَ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَلم يذكر فيهمَا الْعُمْرَةَ،
وَحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ: «لَا أَزْيَدُ وَلَا أَنْقُصُ: فَقَالَ: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ»
وَلَمْ يَذْكُرِ الْعُمْرَةَ وَلَمْ يَحْتَجَّ الشَّافِعِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، إِذْ قُرِنَتْ فِيهَا مَعَ الْحَجِّ، وَبِقَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَبِالِاحْتِيَاطِ.
وَاحْتَجَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَنْعِ التَّمَتُّعِ وَهُوَ الْإِحْرَامُ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ الْحِلِّ مِنْهَا فِي مُدَّةِ الْحَجِّ ثُمَّ الْحَجِّ فِي عَامَّةِ ذَلِكَ قَبْلَ الرُّجُوعِ إِلَى بَلَدِهِ،
فَفِي الْبُخَارِيِّ أَخْرَجَ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمٍ بِالْيَمَنِ فَجِئْتُ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ (عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ) فَقَالَ: بِمَ أَهْلَلْتَ؟ فَقُلْتُ: أَهْلَلْتُ كَإِهْلَالِ النَّبِيءِ قَالَ: أَحْسَنْتَ هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْيٍ! قُلْتُ: لَا، فَأَمَرَنِي فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وبالصفا والمروة ثُمَّ أَمَرَنِي فَأَحْلَلْتُ فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَّطَتْنِي أَوْ غَسَلَتْ رَأْسِي، ثُمَّ أَهَلَلْتُ بِالْحَجِّ فَكُنْتُ أُفْتِي النَّاسَ بِهِ حَتَّى خِلَافَةِ عُمَرَ فَذَكَرْتُهُ لَهُ فَقَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ، قَالَ تَعَالَى:
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ
، يُرِيدُ عُمَرُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ أَبَا مُوسَى أَهَّلَ بِإِهْلَالٍ النَّبِيءِ صَلَّى اللَّهُ