عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّبِيءُ كَانَ مُهِلًّا بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا فَهُوَ قَارِنٌ وَالْقَارِنُ مُتَلَبِّسٌ بِحَجٍّ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحِلَّ فِي أَثْنَاءِ حَجِّهِ وَتَمَسَّكَ بِفِعْلِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ قَارنا وَلمن يُحِلَّ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ تَخْصِيصِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ كَمَا هُوَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ ابْنَةِ قَيْسٍ فِي النَّفَقَةِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ عَطْفٌ عَلَى أَتِمُّوا، وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ الذِّكْرِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ذَكَرَ حُكْمَ مَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ الْإِتْمَامِ.
وَلَا سِيَّمَا الْحَجِّ لِأَنَّ وَقْتَهُ يَفُوتُ غَالِبًا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْمَانِعِ، بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ.
وَالْإِحْصَارُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَنْعُ الذَّاتِ مِنْ فِعْلٍ مَا، يُقَالُ: أَحْصَرَهُ مَنْعَهُ مَانِعٌ قَالَ تَعَالَى:
لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٢٧٣] أَيْ مَنَعَهُمُ الْفَقْرُ مِنَ السَّفَرِ لِلْجِهَادِ وَقَالَ ابْنُ مَيَّادَةَ:
وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ ... عَلَيْكَ وَلَا أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ
وَهُوَ فِعْلٌ مَهْمُوزٌ لَمْ تُكْسِبْهُ هَمْزَتُهُ تَعْدِيَةً، لِأَنَّهُ مُرَادِفُ حَصَرَهُ وَنَظِيرُهُمَا صَدَّهُ وَأَصَدَّهُ.
هَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، وَلَكِنْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ أَحْصَرَ الْمَهْمُوزِ فِي الْمَنْعِ الْحَاصِلِ مِنْ غَيْرِ الْعَدُوِّ، وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ حَصَرَ الْمُجَرَّدِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْعَدُوِّ، قَالَ: وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ [التَّوْبَة: ٥] فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَيَيْنِ وَلَكِنَّ الِاسْتِعْمَالَ غَلَّبَ أَحدهمَا فِي أَحَدَهُمَا كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» ، وَمِنَ اللُّغَوِيِّينَ مَنْ قَالَ: أَحْصَرَ حَقِيقَةٌ فِي مَنْعِ غَيْرِ الْعَدُوِّ وَحصر حَقِيقَةٌ فِي مَنْعِ الْعَدُوِّ وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجِ، وَمِنَ اللُّغَوِيِّينَ مَنْ عَكَسَ وَهُوَ ابْنُ فَارِسٍ لَكِنَّهُ شَاذٌّ جِدًّا.
وَجَاءَ الشَّرْطُ بِحَرْفِ (إِنْ) لِأَنَّ مَضْمُونَ الشَّرْطِ كَرِيهٌ لَهُمْ فَأَلْقَى إِلَيْهِمُ الْكَلَامَ إِلْقَاءَ الْخَبَرِ الَّذِي يُشَكُّ فِي وُقُوعِهِ، وَالْمَقْصُودُ إِشْعَارُهُمْ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَيَمْنَعُونَهُمْ مِنَ الْعُمْرَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْإِحْصَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى نَحْوِ الِاخْتِلَافِ فِي الْوَضْعِ أَوْ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ الْإِحْصَارَ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى مَا يَعُمُّ الْمَنْعَ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى عَقِبَهُ: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْأَمْنُ مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ، وَأَنَّ هَذَا التَّعْمِيمَ فِيهِ قَضَاءُ حَقِّ الْإِيجَازِ فِي جَمْعِ أَحْكَامِ الْإِحْصَارِ ثُمَّ تَفْرِيقِهَا كَمَا سَأُبَيِّنُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا أَمِنْتُمْ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَرَاهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجَّ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَلَى حُكْمِ الْإِحْصَارِ بِغَيْرِ عَدُوٍّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا
احْتَجَّ بِالسُّنَّةِ. وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أُرِيدَ بِهَا الْمَنْعُ الْحَاصِلُ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ دُونَ مَنْعِ الْعَدُوِّ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ الْإِحْصَارِ عَلَى هَذَا الْمَنْعِ هُوَ الْأَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ. وَلِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جَعَلَتْ عَلَى الْمَحْصَرِ هَدْيًا وَلَمْ تَرِدِ السُّنَّةُ بِمَشْرُوعِيَّةِ الْهَدْيِ فِيمَنْ حَصَرَهُ الْعَدُوُّ