عَلَى الْعُمْرَةِ كُلُّ ذَلِكَ شَرَعَهُ اللَّهُ رُخْصَةً لِلنَّاسِ، وَإِبْطَالًا لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ مَنْعِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَفَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْهَدْيَ جَبْرًا لِمَا كَانَ يَتَجَشَّمُهُ مِنْ مَشَقَّةِ الرُّجُوعِ إِلَى مَكَّةَ لِأَدَاءِ الْعُمْرَةِ كَمَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ تَمَتُّعًا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي التَّمَتُّعِ وَفِي صِفَتِهِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهِ، وَأَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يُحْرِمُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَجَّةٍ فِي عَامِهِ ذَلِكَ، وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ لَا يَرَى التَّمَتُّعَ وَيَنْهَى عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ بِمِثْلِ مَا تَأَوَّلَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا، وَخَالَفَهُ عَلِيٌّ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ تَمَتَّعْنَا على عهد النَّبِي وَنَزَلَ الْقُرْآنُ ثُمَّ قَالَ رجل من بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ (يُرِيدُ عُثْمَانَ) ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَا يَرَى لِلْقَارِنِ إِذَا أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَبِحَجَّةٍ مَعًا وَتَمَّمَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ حَتَّى يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِ حَجِّهِ فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ إِنِّي جِئْتُ مِنَ الْيَمَنِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ بِمَكَّةَ مُحْرِمًا (أَيْ عَامَ الْوَدَاعِ) فَقَالَ لِي بِمَ أَهَلَلْتَ؟ قُلْتُ أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيءِ فَقَالَ لِي هَلْ مَعَكَ هَدْيٌ قُلْتُ لَا فَأَمَرَنِي فطفت وسعيت ثمَّ أَمرنِي فَأَحْلَلْتُ وَغَسَلْتُ رَأْسِي وَمَشَّطَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَلَمَّا حَدَّثَ أَبُو مُوسَى عُمَرَ بِهَذَا قَالَ عُمَرُ: «إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ يَأْمُرُنَا بِالْإِتْمَامِ وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ رَسُولِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيَ مَحِلَّهُ» ، وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ يُخَالِفُونَ رَأْيَ عُمَرَ وَيَأْخُذُونَ بِخَبَرِ أَبِي مُوسَى-
وَبِحَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ»
، وَقَدْ يَنْسِبُ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى عُمَرَ أَنَّهُ لَا يَرَى جَوَازَ التَّمَتُّعِ وَهُوَ وَهْمٌ إِنَّمَا رَأْيُ عُمَرَ لَا يَجُوزُ الْإِحْلَالُ مِنَ الْعُمْرَةِ فِي التَّمَتُّعِ إِلَى أَنْ يَحِلَّ مِنَ الْحَجِّ وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، فَلَعَلَّهُ رَأَى الْإِحْلَالَ لِلْمُتَلَبِّسِ بِنِيَّةِ الْحَجِّ مُنَافِيًا لِنِيَّتِهِ وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِتْمَامِ وَلَعَلَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْآحَادَ مُخَصِّصًا لِلْمُتَوَاتِرِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ لِأَنَّ فِعْلَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا مُتَوَاتِرٌ، إِذْ قَدْ شَهِدَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَنَقَلُوا حَجَّهُ وَأَنه أهل بهما جَمِيعًا.
نَعَمْ، كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَرَيَانِ إِفْرَادَ الْحَجِّ أَفْضَلَ مِنَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَنَّهُ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْحَدِيثَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ بِعَمَلِ الشَّيْخَيْنِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرَى التَّمَتُّعَ خَاصًّا بِالْمُحْصَرِ إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ بَعْدَ أَنْ فَاتَهُ وُقُوفُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute