للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الرّوم: ٥٨] . وَنَحْوِ ذَلِكَ وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ بِاللَّامِ على الْمَفْعُول لِلِاهْتِمَامِ بِإِيقَاظِ الَّذِينَ كَفَرُوا.

فَمَعْنَى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ، أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ حَالَةَ هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ عِظَةً وَتَنْبِيهًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ لِيُذَكِرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَصْرِفُهُ عَنْ وَعِيدِهِ صَارِفٌ فَلَا يَحْسَبُوا أَنَّ لَهُمْ شُفَعَاءَ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا أَنَّ مَكَانَهُمْ مِنْ جِوَارِ بَيْتِهِ وَعِمَارَةِ مَسْجِدِهِ وَسِقَايَةِ حَجِيجِهِ تَصْرِفُ غَضَبَ اللَّهِ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَقْلَعُوا عَنْ هَذَا الْحُسْبَانِ أَقْبَلُوا عَلَى التَّدَبُّرِ فِي النَّجَاةِ مِنْ وَعِيدِهِ بِالنَّظَرِ فِي دَلَائِلِ دَعْوَةِ الْقُرْآنِ وَصدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ كَانَ صَارِفٌ يَصْرِفُ اللَّهَ عَنْ غَضَبِهِ لَكَانَ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِذَلِكَ مَكَانَةَ هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ زَوْجَيْهِمَا رَسُولَيْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَمُنَاسِبَةُ ضَرْبِ الْمَثَلِ بِامْرَأَة نوح وَامْرَأَة لوط دون غَيرهمَا مِنْ قُرَابَةِ الْأَنْبِيَاءِ نَحْوَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَابْنِ نُوحٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لِأَنَّ ذِكْرَ هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ لَمْ يَتَقَدَّمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَابْنُ نُوحٍ، لِتَكُونَ فِي ذِكْرِهِمَا فَائِدَةٌ مُسْتَجَدَّةٌ، وَلِيَكُونَ فِي ذِكْرِهِمَا عَقِبَ مَا سَبَقَ مِنْ تَمَالُؤِ أُمَّيِ الْمُؤمنِينَ على زَوجهمَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِيضٌ لَطِيفٌ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ خَاطِرِ الِاعْتِزَازِ بِغِنَاءِ الصِّلَةِ الشَّرِيفَةِ عَنْهُمَا فِي الْوَفَاءِ بِحَقِّ مَا يَجِبُ مِنَ الْإِخْلَاص للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ الشَّبَهُ فِي التَّمْثِيلِ أَقْوَى. فَعَنْ مُقَاتِلٍ «يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ: لَا تَكُونَا بِمَنْزِلَةِ امْرَأَةِ نُوحٍ وَامْرَأَةِ لُوطٍ فِي الْمَعْصِيَةِ وَكُونَا بِمَنْزِلَةِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمَ» . وَوَضَّحَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ التَّعْرِيضِ. وَمَنَعَهُ الْفَخْرُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «قَالَ بَعْضُ النَّاسِ فِي الْمَثَلَيْنِ عِبْرَةٌ لزوجات النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَقَدَّمَ عِتَابُهُنَّ. وَفِي هَذَا بُعْدٌ لِأَنَّ النَّصَّ أَنَّهُ لِلْكُفَّارِ يُبْعِدُ هَذَا» اه.

وَيَدْفَعُ اسْتِبْعَادَهُ أَنَّ دَلَالَةَ التَّعْرِيضِ لَا تُنَافِي اللَّفْظَ الصَّرِيحَ، وَمن لطائف التَّقْيِيد بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَصْلِيَّ هُوَ ضَرْبُ الْمَثَلِ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ مِنَ الِاحْتِرَاسِ مِنْ أَنْ تَحْمِلَ التَّمْثِيلَ عَلَى الْمُشَابَهَةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَالِاحْتِرَاسُ بِكَثْرَةِ

التَّشْبِيهَاتِ وَمِنْهُ تَجْرِيدُ الِاسْتِعَارَةِ.

وَقِصَّةُ امْرَأَةِ نُوحٍ لَمْ تَذْكُرْ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا خَانَتْ زَوْجَهَا بَعْدَ الطُّوفَانِ وَأَنَّ نُوحًا لَمْ يَعْلَمْ بِخَوْنِهَا لِأَنَّ اللَّهَ سَمَّى عَمَلَهَا خِيَانَةً.

وَقَدْ وَرَدَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ ذِكْرُ امْرَأَةِ نُوحٍ مَعَ الَّذِينَ رَكِبُوا السَّفِينَةَ