للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لَكِنَّ أَئِمَّةَ الْفَنِّ حِينَ ذَكَرُوا أَمْثِلَةَ تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ سَوَّوْا فِيهَا بَيْنَ الْإِثْبَاتِ- كَمَا ذَكَرْنَا- وَبَيْنَ النَّفْيِ نَحْوَ لَا فِيها غَوْلٌ [الصافات:

٤٧] ، فَقَدْ مَثَّلَ بِهِ فِي «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: ٢] فَقَالَ: «قَصَدَ تَفْضِيلَ خَمْرِ الْجَنَّةِ عَلَى خُمُورِ الدُّنْيَا» ، وَقَالَ السَّيِّدُ فِي شَرْحِهِ هُنَالِكَ «عُدَّ قَصْرًا لِلْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ، أَيِ الْغَوْلُ مَقْصُورٌ عَلَى عَدَمِ الْحُصُولِ فِي خُمُورِ الْجَنَّةِ لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى عَدَمِ الْحُصُولِ فِيمَا يُقَابِلُهَا، أَوْ عَدَمُ الْغُولِ مَقْصُورٌ عَلَى الْحُصُولِ فِيهَا لَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى الْحُصُولِ فِي هَذِهِ الْخُمُورِ» . وَقَدْ أَحَلْتُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: ٢] عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا، فَبِنَا أَنْ نُبَيِّنَ طَرِيقَةَ الْقَصْرِ بِالتَّقْدِيمِ فِي النَّفْيِ، وَهِيَ أَنَّ الْقَصْرَ لَمَّا كَانَ كَيْفِيَّةً عَارِضَةً لِلتَّرْكِيبِ وَلَمْ يَكُنْ قَيْدًا لَفْظِيًّا بِحَيْثُ يَتَوَجَّهُ النَّفْيُ إِلَيْهِ كَانَتْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ مُسْتَصْحَبَةً مَعَ النَّفْيِ، فَنَحْوُ لَا فِيها غَوْلٌ يُفِيدُ قَصْرَ الْغَوْلِ عَلَى الِانْتِفَاءِ عَنْ خُمُورِ الدُّنْيَا وَلَا يُفِيدُ نَفْيَ قَصْرِ الْغَوْلِ عَلَى الْكَوْنِ فِي خُمُورِ الْجَنَّةِ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ السَّيِّدُ فِي شَرْحِ «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ لَا رَيْبَ فِيهِ إِذْ قَالَ «وَبِالْجُمْلَةِ يُجْعَلُ حَرْفُ النَّفْيِ جُزْءًا أَوْ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْمُسْنَدِ أَوِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ» . وَعَلَى هَذَا بَنَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فَجَعَلَ وَجْهَ أَنْ لَمْ يُقَدَّمِ الظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ كَمَا قُدِّمَ الظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: لَا فِيها غَوْلٌ لِأَنَّهُ لَوْ أُوِّلَ لَقُصِدَ أَنَّ كِتَابًا آخَرَ فِيهِ الرَّيْبُ، لَا فِي الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُرَادٍ.

فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَوْلُهُ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ إِذَا أُجْرِيَ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ كَانَ مُفَادُهُ هُدَاهُمْ مَقْصُورٌ عَلَى انْتِفَاءِ كَوْنِهِ عَلَيْكَ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ اسْتِفَادَةُ إِبْطَالِ انْتِفَاءِ كَوْنِهِ عَلَى غَيْرِ الْمُخَاطَبِ، أَيْ إِبْطَالُ انْتِفَاءِ كَوْنِهِ عَلَى اللَّهِ، وَكِلَا الْمُفَادَيْنِ غَيْرُ مُرَادٍ إِذْ لَا يعْتَقد الْأَوَّلُ وَلَا الثَّانِي. فَالْوَجْهُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيمُ هُنَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ كَتَقْدِيمِ يَوْمِ النَّدَى فِي قَوْلِ الْحَرِيرِيِّ:

مَا فِيهِ مِنْ عَيْبٍ سِوَى أَنَّهُ ... يَوْمَ النَّدَى قِسْمَتُهُ ضِيزَى

بِنَفْيِ كَوْنِ هُدَاهُمْ حَقًّا عَلَى الرَّسُولِ تَهْوِينًا لِلْأَمْرِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ

مُفَوَّضًا إِلَى اللَّهِ فَمِنْ قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَرَى عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِتَنْزِيلِ السَّامِعِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ إِيجَادَ الْإِيمَانِ فِي الْكُفَّارِ يَكُونُ بِتَكْوِينِ اللَّهِ وَبِالْإِلْجَاءِ مِنَ الْمَخْلُوقِ، فَقَصَرَ هُدَاهُمْ عَلَى عَدَمِ الْكَوْنِ فِي إِلْجَاءِ الْمَخْلُوقِينَ إِيَّاهُمْ لَا عَلَى عَدَمِ الْكَوْنِ فِي أَنَّهُ عَلَى اللَّهِ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَى اللَّهِ، أَيْ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِ.