حَذْفُ الْمَعْمُولِ لِقَصْدِ الْعُمُومِ، أَيْ إِذَا مَا دُعُوا لِلتَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ مَعًا قَالَهُ الْحَسَنُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا مَا دُعُوا إِلَى الْأَدَاءِ خَاصَّةً، وَلَعَلَّ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ:
الشُّهَداءِ لِأَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ حَقِيقَةً إِلَّا بَعْدَ التَّحَمُّلِ، وَيُبْعِدُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ- بَعْدَ هَذَا- وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ [الْبَقَرَة: ٢٨٣] وَذَلِكَ نَهْيٌ عَنِ الْإِبَايَةِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ لِلْأَدَاءِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ حَذْفَ الْمُتَعَلِّقِ بِفِعْلِ دُعُوا لِإِفَادَةِ شُمُولِ مَا يُدْعَونَ لِأَجْلِهِ فِي
التَّعَاقُدِ: مِنْ تَحَمُّلٍ، عِنْد قصد الْإِشْهَاد، وَمِنْ أَدَاءٍ، عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْبَيِّنَةِ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: «وَالتَّحَمُّلُ حَيْثُ يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَالْأَدَاءُ مِنْ نَحْوِ الْبَرِيدَيْنِ- إِنْ كَانَا اثْنَيْنِ- فَرْضُ عَيْنٍ، وَلَا تَحِلُّ إِحَالَتُهُ عَلَى الْيَمِينِ» .
وَالْقَوْلُ فِي مُقْتَضَى النَّهْيِ هُنَا كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ وَيَظْهَرُ أَنَّ التَّحَمُّلَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ مِنَ الْإِمَامِ، أَوْ بِمَا يُعَيِّنُهُ، وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَكُونَ فَرْضَ عَيْنٍ إِلَّا لِضَرُورَةٍ فَينْتَقل المتعاقدان لآخر، وَأَمَّا الْأَدَاءُ فَفَرْضُ عَيْنٍ إِنْ كَانَ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ عَلَى الشَّاهِدِ فِي بَدَنِهِ، أَوْ مَالِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَدَاءُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِلَّا إِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ: بِأَنْ لَا يُوجَدَ بَدَلُهُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِشَرْطِ عَدَالَةِ الْقَاضِي، وَقُرْبِ الْمَكَانِ: بِأَنْ يَرْجِعَ الشَّاهِدُ إِلَى مَنْزِلِهِ فِي يَوْمِهِ، وَعِلْمِهِ بِأَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَطَلَبِ الْمُدَّعِي. وَفِي هَذِهِ التَّعْلِيقَاتِ رَدٌّ بِالشَّهَادَةِ إِلَى مُخْتَلِفِ اجْتِهَادَاتِ الشُّهُودِ، وَذَلِكَ بَابٌ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ لَا يَنْبَغِي فَتْحُهُ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ لِلنَّاسِ شُهُودًا، وَيَجْعَلَ لَهُمْ كِفَايَتَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ شُغْلٌ إِلَّا تَحَمُّلُ حُقُوقِ النَّاسِ حِفْظًا لَهَا» .
قُلْتُ: وَقَدْ أَحْسَنَ. قُضَاةُ تُونُسَ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَأُمَرَاؤُهَا، فِي تَعْيِينِ شُهُودٍ مُنْتَصِبِينَ لِلشَّهَادَةِ بَيْنَ النَّاسِ، يُؤْخَذُونَ مِمَّنْ يَقْبَلُهُمُ الْقُضَاةُ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِالْعَدَالَةِ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي الْأَنْدَلُسِ، وَذَلِكَ مِنْ حُسْنِ النَّظَرِ لِلْأُمَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُتَّبَعًا فِي بِلَادِ الْمَشْرِقِ، بَلْ كَانُوا يَكْتَفُونَ بِشُهْرَةِ عَدَالَةِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَضَبْطِهِمْ لِلشُّرُوطِ وَكَتْبِ الْوَثَائِقِ فَيَعْتَمِدُهُمُ الْقُضَاةُ، وَيَكِلُونَ إِلَيْهِمْ مَا يَجْرِي فِي النَّوَازِلِ مِنْ كِتَابَةِ الدَّعْوَى وَالْأَحْكَامِ، وَكَانَ مِمَّا يُعَدُّ فِي تَرْجَمَةِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُقَالَ: كَانَ مَقْبُولًا عِنْدَ الْقَاضِي فُلَانٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute