للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ تَقْرِيرِيٌّ، وَالتَّقْرِيرِيُّ يَكْثُرُ أَنْ يُورَدَ عَلَى النَّفْيِ، كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٣] .

وَإِنَّمَا جِيءَ فِي النَّفْيِ بِحَرْفِ لَنْ الَّذِي يُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ لِقِلَّتِهِمْ، وَضَعْفِهِمْ، مَعَ كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، وَشَوْكَتِهِ، كَالْآيِسِينَ مِنْ كِفَايَةِ هَذَا الْمَدَدِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَأَوْقَعَ الِاسْتِفْهَامَ التَّقْرِيرِيَّ عَلَى ذَلِكَ لِيَكُونَ تَلْقِينًا لِمَنْ يُخَالِجُ نَفْسَهُ الْيَأْسُ مِنْ كِفَايَةِ ذَلِكَ الْعَدَدِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، بِأَنْ يُصَرِّحَ بِمَا فِي نَفْسِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ لَازِمُهُ، وَهَذَا إِثْبَاتُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَدَدَ كَافٍ.

وَلِأَجْلِ كَوْنِ الِاسْتِفْهَامِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ كَانَ جَوَابُهُ مِنْ قِبَلِ السَّائِلِ بِقَوْلِهِ: بَلى لِأَنَّهُ مِمَّا لَا تَسَعُ الْمُمَارَاةُ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٩] ، فَكَانَ (بَلَى) إِبْطَالًا لِلنَّفْيِ، وَإِثْبَاتًا لِكَوْنِ ذَلِكَ الْعَدَدِ كَافِيًا، وَهُوَ مِنْ تَمَامِ مَقَالَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُؤْمِنِينَ.

وَقَدْ جَاءَ- فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٩]- عِنْدَ ذِكْرِهِ وَقْعَةَ بَدْرٍ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِمَدَدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَدَدُهُ أَلْفٌ بِقَوْلِهِ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ

الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ

وَذَكَرَ هُنَا أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ ثُمَّ صَيَّرَهُمْ إِلَى خَمْسَةِ آلَافٍ.

وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّ الله وعدهم بِثَلَاثَة آلَاف ثمّ صيّرهم إِلَى خَمْسَة آلَاف. وَوجه الْجمع بَين الْآيَتَيْنِ أنّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأَطْمَعَهُمْ بِالزِّيَادَةِ بقوله: مُرْدِفِينَ [الْأَنْفَال: ٩] أَيْ مُرْدَفِينَ بِعَدَدٍ آخَرَ، وَدَلَّ كَلَامُهُ هُنَا عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا وَجِلِينَ مِنْ كَثْرَةِ عَدَدِ الْعَدُوِّ،

فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ»

أَرَادَ اللَّهُ بِذَلِكَ زِيَادَةَ تَثْبِيتِهِمْ ثُمَّ زَادَهُمْ أَلْفَيْنِ إِنْ صَبَرُوا وَاتَّقَوْا. وَبِهَذَا الْوَجْهِ فَسَرَّ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ نَزَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ لِنُصْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَشَاهَدَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ طَائِفَةً مِنْهُمْ، وَبَعْضُهُمْ شَهِدَ آثَارَ قَتْلِهِمْ رِجَالًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.