وَصْفُ الْإِلَهِيَّةِ، لِأَنَّ الْمَقَامَ لِإِبْطَالِ قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، إِذْ جَعَلُوا مَرْيَمَ الْأُقْنُومَ الثَّالِثَ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» إِذْ قَالَ «أَيْ وَمَا أُمُّهُ إِلَّا صِدِّيقَةٌ»
مَعَ أَنَّ الْجُمْلَةَ لَا تَشْتَمِلُ عَلَى صِيغَةِ حَصْرٍ. وَقَدْ وجّهه الْعَلامَة التفتازانيّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» بِقَوْلِهِ: «الْحَصْرُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْمَقَامِ وَالْعَطْفِ» (أَيْ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ) . وَفِي قَول التفتازانيّ: وَالْعَطْفِ، نَظَرٌ.
وَالصِّدِّيقَةُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، مِثْلَ شِرِّيبٍ وَمِسِّيكٍ، مُبَالَغَةٌ فِي الشُّرْبِ وَالْمَسْكِ، وَلَقَبِ امْرِئِ الْقَيْسِ بِالْمَلِكِ الضِّلِّيلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى مَا يَسْتَرْجِعُ بِهِ مُلْكَ أَبِيهِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ أَنْ تَكُونَ مُشْتَقَّةً مِنَ الْمُجَرَّدِ الثُّلَاثِيِّ. فَالْمَعْنَى الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِهَا بِالصِّدْقِ، أَيْ صِدْقِ وَعَدِ رَبِّهَا، وَهُوَ مِيثَاقُ الْإِيمَانِ وَصِدْقُ وَعْدِ النَّاسِ. كَمَا وُصِفَ إِسْمَاعِيلُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مَرْيَم:
٥٤] . وَقَدْ لُقِّبَ يُوسُفُ بِالصِّدِّيقِ، لِأَنَّهُ صَدَّقَ وَعْدَ رَبِّهِ فِي الْكَفِّ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ مَعَ تَوَفُّرِ أَسْبَابِهَا. وَقِيلَ: أُرِيدَ هُنَا وَصْفَهَا بِالْمُبَالَغَةِ فِي التَّصْدِيقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها [التَّحْرِيم: ١٢] ، كَمَا لُقِّبَ أَبُو بَكْرٍ بِالصِّدِّيقِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر: ٣٣] ، فَيَكُونُ مُشْتَقًّا مِنَ الْمَزِيدِ.
وَقَوْلُهُ: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَفْهُومِ الْقَصْرِ الَّذِي هُوَ نَفْيُ إِلَهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبِلَهَا لِأَنَّ الدَّلِيلَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيَانِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ عَلَى بَشَرِيَّتِهِمَا بِإِثْبَاتِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ، وَهِيَ أَكْلُ الطَّعَامِ. وَإِنَّمَا اخْتِيرَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ مِنْ بَيْنِ صِفَاتٍ كَثِيرَةٍ لِأَنَّهَا ظَاهِرَةٌ وَاضِحَةٌ لِلنَّاسِ، وَلِأَنَّهَا أَثْبَتَتْهَا الْأَنَاجِيلُ فَقَدْ أَثْبَتَتْ أَنَّ مَرْيَمَ أَكَلَتْ ثَمَرَ النَّخْلَةِ حِينَ مَخَاضِهَا، وَأَنَّ عِيسَى أَكَلَ مَعَ الْحَوَارِيِّينَ يَوْمَ الْفِصْحِ خُبْزًا وَشَرِبَ خَمْرًا، وَفِي إِنْجِيلِ لُوقَا إِصْحَاحُ ٢٢ «وَقَالَ لَهُمُ اشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هَذَا الْفِصْحَ مَعَكُمْ قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ لِأَنِّي لَا آكُلُ مِنْهُ بَعْدُ، وَفِي الصُّبْحِ إِذْ كَانَ رَاجِعًا فِي الْمَدِينَةِ جَاعَ» .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute