وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ، وَهِيَ تُفِيدُ مَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مِنْهُمْ رَاجِعٌ إِلَى النَّصَارَى.
وَالْقِسِّيسُونَ جَمْعُ سَلَامَةٍ لِقِسِّيسٍ بِوَزْنِ سِجِينٍ. وَيُقَالُ قَسَّ- بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ- وَهُوَ عَالِمُ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: هِيَ بِلُغَةِ الرُّومِ. وَهَذَا مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْوِفَاقُ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ.
وَالرُّهْبَانُ هُنَا جَمْعُ رَاهِبٍ، مِثْلُ رُكْبَانٍ جَمْعِ رَاكِبٍ، وَفُرْسَانٍ جَمْعِ فَارِسٍ، وَهُوَ غَيْرُ مَقِيسٍ فِي وَصْفٍ عَلَى فَاعِلٍ. وَالرَّاهِبُ مِنَ النَّصَارَى الْمُنْقَطِعُ فِي دَيْرٍ أَوْ صَوْمَعَةٍ لِلْعِبَادَةِ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: الرُّهْبَانُ يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا، فَمَنْ جَعَلَهُ وَاحِدًا جَمَعَهُ عَلَى رَهَابِينَ وَرَهَابِنَةٍ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الْفَرَّاءِ. وَلَمْ يَحْكِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْأَسَاسِ أَنَّ رُهْبَانَ يَكُونُ مُفْرَدًا. وَإِطْلَاقُهُ عَلَى الْوَاحِدِ فِي بَيْتٍ أَنْشَدَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
لَوْ أَبْصَرَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ بِالْجَبَلِ ... لَانْحَدَرَ الرُّهْبَانُ يَسْعَى وَيَزِلُّ
وَإِنَّمَا كَانَ وُجُودُ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ بَيْنَهُمْ سَبَبًا فِي اقْتِرَابِ مَوَدَّتِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعَرَبِ مِنْ حُسْنِ أَخْلَاقِ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ وَتَوَاضُعِهِمْ وَتَسَامُحِهِمْ. وَكَانُوا مُنْتَشِرِينَ فِي جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ يُعَمِّرُونَ الْأَدْيِرَةَ وَالصَّوَامِعَ وَالْبِيَعَ، وَأَكْثَرُهُمْ مِنْ
عَرَبِ الشَّامِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ النَّصْرَانِيَّةِ عَلَى طَرِيقِ الرُّومِ، فَقَدْ عَرَفَهُمُ الْعَرَبُ بِالزُّهْدِ وَمُسَالَمَةِ النَّاسِ وَكَثُرَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ شُعَرَائِهِمْ. قَالَ النَّابِغَةُ:
لَوْ أَنَّهَا بَرَزَتْ لِأَشْمَطَ رَاهِبٍ ... عَبَدَ الْإِلَهَ صَرُورَةٍ مُتَعَبِّدِ
لَرَنَا لِطَلْعَتِهَا وَحُسْنِ حَدِيثِهَا ... وَلَخَالَهُ رُشْدًا وَإِنْ لَمْ يَرْشُدِ
فَوُجُودُ هَؤُلَاءِ فِيهِمْ وَكَوْنُهُمْ رُؤَسَاءَ دِينِهِمْ مِمَّا يَكُونُ سَبَبًا فِي صَلَاحِ أَخْلَاقِ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ. وَالِاسْتِكْبَارُ: السِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute