التَّكَبُّرِ وَالتَّعَاظُمِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُكَابَرَةِ وَكَرَاهِيَةِ الْحَقِّ، وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ. فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَسْتَكْبِرُونَ أَنَّهُمْ مُتَوَاضِعُونَ مُنْصِفُونَ. وَضَمِيرُ وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ بِأَنَّ مِنْهُمْ، أَيْ وَأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى لَا يَسْتَكْبِرُونَ، فَيَكُونُ قَدْ أَثْبَتَ التَّوَاضُعَ لِجَمِيعِ أَهْلِ مِلَّةِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ. وَقَدْ كَانَ نَصَارَى الْعَرَبِ مُتَحَلِّينَ بِمَكَارِمَ مِنَ الْأَخْلَاقِ. قَالَ النَّابِغَةُ يَمْدَحُ آلَ النُّعْمَانِ الْغَسَّانِيِّ وَكَانُوا مُتَنَصِّرِينَ:
مَجَلَّتُهُمْ ذَاتُ الْإِلَهِ وَدِينُهُمْ ... قَوِيمٌ فَمَا يَرْجُونَ غَيْرَ الْعَوَاقِبِ
وَلَا يَحْسَبُونَ الْخَيْرَ لَا شَرَّ بَعْدَهُ ... وَلَا يَحْسَبُونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لَازِبِ
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَنَّ هَذَا الْخُلُقَ وَصْفٌ لِلنَّصَارَى كُلِّهِمْ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُمْ نَصَارَى فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُحْمَلَ الْمَوْصُولُ عَلَى الْعُمُومِ الْعُرْفِيِّ، وَهُمْ نَصَارَى الْعَرَبِ، فَإِنَّ اتِّبَاعَهُمُ النَّصْرَانِيَّةَ عَلَى ضَعْفِهِمْ فِيهَا ضَمَّ إِلَى مَكَارِمِ أَخْلَاقِهِمُ الْعَرَبِيَّةِ مَكَارِمَ أَخْلَاقٍ دِينِيَّةٍ، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ زُهَيْرٌ وَلَبِيدٌ وَوَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلَ وَأَضْرَابُهُمْ.
وَضَمِيرُ وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَائِدٌ إِلَى قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً لِأَنَّهُ أَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ، وَهَذَا تُشْعِرُ بِهِ إِعَادَةُ قَوْلِهِ وَأَنَّهُمْ، لِيَكُونَ إِيمَاءً إِلَى تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ فِي مَعَادِ الضَّمِيرِ، وَتَكُونَ ضَمَائِرُ الْجَمْعِ مِنْ قَوْلِهِ وَإِذا سَمِعُوا- إِلَى قَوْلِهِ- فَأَثابَهُمُ اللَّهُ [الْمَائِدَة: ٨٣- ٨٥] تَابِعَةً لِضَمِيرِ وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ.
وَقَرِينَةُ صَرْفِ الضَّمَائِرِ الْمُتَشَابِهَةِ إِلَى مُعَادَيْنِ هِيَ سِيَاقُ الْكَلَامِ. وَمِثْلُهُ وَارِدٌ فِي الضَّمَائِرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها [الرّوم: ٩] . فَضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي عَمَرُوها الْأَوَّلِ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي عَمَرُوها الثَّانِي. وَكَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute