وَالْمَقَامُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مُرَادِفٌ لِلْقِيَامِ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي مَعْنَى شَأْنِ الْمَرْءِ وَحَالِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَن: ٤٦] ، وَقَوْلِهِ: قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً [مَرْيَم: ٧٣] أَيْ خَيْرٌ حَالَةً وَشَأْنًا. وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ، لِأَنَّ مَكَانَ الْمَرْءِ وَمَقَامَهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَفِيهِمَا مَظَاهِرُ أَحْوَالِهِ.
وَخُصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ أَحْوَالِهِ فِيهِمْ تَذْكِيرُهُ إِيَّاهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ من أهم شؤونه مَعَ قَوْمِهِ، فَعَطْفُهُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. فَمَعْنَى: كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي سَئِمْتُمْ أَحْوَالِي مَعَكُمْ وَخَاصَّةً بِتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ.
وَتَجَهُّمُ الْحَقِّ عَلَى أَمْثَالِهِمْ شِنْشِنَةُ الْمُتَوَغِّلِينَ فِي الْفَسَادِ الْمَأْسُورِينَ لِلْهَوَى إِذْ تَقَعُ لَدَيْهِمُ الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِقْلَاعِ عَنْهُ وَالتَّثْوِيبُ بِهِمْ إِلَى الرَّشَادِ مَوْقِعًا مُرَّ الْمَذَاقِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، شَدِيدَ الْإِيلَامِ لِقُلُوبِهِمْ، لِمَا فِي مُنَازَعَةِ الْحَقِّ نُفُوسَهُمْ مِنْ صَوْلَةٍ عَلَيْهَا لَا يَسْتَطِيعُونَ الِاسْتِخْفَافَ بِهَا وَلَا يُطَاوِعُهُمْ هَوَاهُمْ عَلَى الْإِذْعَانِ إِلَيْهَا، فَيَتَوَرَّطُونَ فِي حَيْرَةٍ وَمُنَازَعَةٍ نَفْسَانِيَّةٍ تَثْقُلُ عَلَيْهِمْ، وَتَشْمَئِزُّ مِنْهَا نُفُوسُهُمْ، وَتُكَدِّرُ عَلَيْهِمْ صَفْوَ انْسِيَاقِهِمْ مَعَ هَوَاهُمْ.
وَإِضَافَةُ التَّذْكِيرِ إِلَى ضَمِيرِهِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ.
وَالْبَاءُ فِي بِآياتِ اللَّهِ لِتَأْكِيدِ تَعْدِيَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ الثَّانِي، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: تذكيري إيَّاكُمْ.
وبِآياتِ اللَّهِ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِلتَّذْكِيرِ. يُقَالُ: ذَكَّرْتُهُ أَمْرًا نَسِيَهُ، فَتَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إِبْرَاهِيم: ٥] ، وَقَوْلِ مِسْوَرِ بْنِ زِيَادَةَ الْحَارِثِيِّ:
أُذَكِّرُ بِالْبُقْيَا عَلَى مَنْ أَصَابَنِي ... وَبُقْيَايَ أَنِّي جَاهِدٌ غَيْرُ مُؤْتَلِي
وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] إِنَّ الْبَاءَ لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ أَيْ لُصُوقِ الْفِعْلِ بِمَفْعُولِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute