وَخَصَّ اللَّهُ بِالذِّكْرِ نَوْعًا مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَهُوَ الْبَغْيُ اهْتِمَامًا بِالنَّهْيِ عَنْهُ وَسَدًّا لِذَرِيعَةِ وُقُوعِهِ، لِأَنَّ النُّفُوسَ تَنْسَاقُ إِلَيْهِ بِدَافِعِ الْغَضَبِ وَتَغْفُلُ عَمَّا يَشْمَلُهُ مِنَ النَّهْيِ مِنْ عُمُومِ الْفَحْشَاءِ بِسَبَبِ فُشُوِّهِ بَيْنَ النَّاسِ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا أَهْلَ بَأْسٍ وَشَجَاعَةٍ وَإِبَاءٍ، فَكَانُوا يَكْثُرُ فِيهِمُ الْبَغْيُ عَلَى الْغَيْرِ إِذَا لَقِيَ الْمُعْجَبُ بِنَفْسِهِ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا يَكْرَهُهُ أَوْ مُعَاملَة يعدّها هضيمة وَتَقْصِيرًا فِي تَعْظِيمِهِ. وَبِذَلِكَ كَانَ يَخْتَلِطُ عَلَى مُرِيدِ الْبَغْيِ حُسْنُ الذَّبِّ عَمَّا يُسَمِّيهِ الشَّرَفَ وَقُبْحُ مُجَاوَزَةِ حَدِّ الْجَزَاءِ.
فَالْبَغْيُ هُوَ الِاعْتِدَاءُ فِي الْمُعَامَلَةِ، إِمَّا بِدُونِ مُقَابَلَةِ ذَنْبٍ كَالْغَارَةِ الَّتِي كَانَتْ وَسِيلَةَ كَسْبٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِمَّا بِمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فِي مُقَابَلَةِ الذَّنْبِ كَالْإِفْرَاطِ فِي الْمُؤَاخَذَةِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ [سُورَة الْبَقَرَة: ١٩٤] . وَقَالَ: ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ [سُورَة الْحَج: ٦٠] . وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فِي سُورَةِ
الْأَعْرَافِ [٣٣] .
فَهَذِهِ الْآيَةُ جَمَعَتْ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ فِي الْأَمْرِ بِثَلَاثَةٍ، وَالنَّهْيِ عَنْ ثَلَاثَةٍ، بَلْ فِي الْأَمْرِ بِشَيْئَيْنِ وَتَكْمِلَةٍ، وَالنَّهْيِ عَنْ شَيْئَيْنِ وَتَكْمِلَةٍ.
رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: أَنَّ هَذِهِ كَانَتِ السَّبَبَ فِي تَمَكُّنِ الْإِيمَانِ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، فَإِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ كَانَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ بِجَانِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ حَدِيثَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ حَيَاءً مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرَأَهَا النَّبِيءُ عَلَيْهِ. قَالَ عُثْمَانُ: فَذَلِكَ حِينَ اسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا إِذْ شَخَصَ بَصَرُهُ، فَقَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ الْآيَةَ اه. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ تَنْزِلْ مُتَّصِلَةً بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا فَكَانَ وَضْعُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ صَالِحًا لِأَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِآيَةِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute