للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ سَائِحًا نَصْرَانِيًّا اسْمَهُ (ارْكُولْفَ) زَارَ الْقُدْسَ سَنَةَ ٦٧٠ م، أَيْ بَعْدِ خِلَافَةِ عُمَرَ بِأَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَزَعَمَ أَنَّهُ رَأَى مَسْجِدًا بَنَاهُ عُمَرُ عَلَى شَكْلٍ مُرَبَّعٍ مِنْ أَلْوَاحٍ وَجُذُوعِ أَشْجَارٍ ضَخْمَةٍ وَأَنَّهُ يَسَعُ نَحْوَ ثَلَاثَةِ آلَافٍ. (١)

وَالظَّاهِرُ أَنَّ نِسْبَةً الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهْمٌ مِنْ أَوْهَامِ النَّصَارَى اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ كَشْفُ عُمَرَ مَوْضِعَ الْمَسْجِدِ فَظَنُّوهُ بِنَاءً. وَإِذَا صَدَقَ ارْكُولْفُ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّهُ رَأَى مَكَانًا مُرَبَّعًا مِنْ أَلْوَاحٍ وَعَمَدِ أَشْجَارٍ كَانَ ذَلِكَ شَيْئًا أَحْدَثَهُ مُسْلِمُو الْبِلَادِ لِصِيَانَةِ ذَلِكَ الْمَكَانِ عَنِ الِامْتِهَانِ.

وَقَوْلُهُ الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ صِفَةٌ لِلْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. وَجِيءَ فِي الصِّفَةِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِقَصْدِ تَشْهِيرِ الْمَوْصُوفِ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ حَتَّى كَأَنَّ الْمَوْصُوفَ مُشْتَهَرٌ بِالصِّلَةِ عِنْدَ السَّامِعِينَ.

وَالْمَقْصُودُ إِفَادَةُ أَنَّهُ مُبَارَكٌ حَوْلَهُ.

وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَكْثِيرِ الْفِعْلِ، مِثْلُ عَافَاكَ اللَّهُ.

وَالْبَرَكَةُ: نَمَاءُ الْخَيْرِ وَالْفَضْلُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِوَفْرَةِ الثَّوَابِ لِلْمُصَلِّينَ فِيهِ وبإجابة دُعَاءِ الدَّاعِينَ فِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبَرَكَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِي [آلِ عِمْرَانَ: ٩٦] .

وَقَدْ وُصِفَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ بِمِثْلِ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ [آل عمرَان: ٩٦] .

وَوَجْهُ الِاقْتِصَارِ عَلَى وَصْفِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِذِكْرِ هَذَا التَّبْرِيكِ أَنَّ شُهْرَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالْبَرَكَةِ وَبِكَوْنِهِ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ مَعْلُومَةٌ لِلْعَرَبِ وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى فَقَدْ تَنَاسَى النَّاسُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَالْعَرَبُ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ وَالنَّصَارَى عَفَّوْا أَثَرَهُ مِنْ كَرَاهِيَتِهِمْ لِلْيَهُودِ، وَالْيَهُودُ قَدِ ابْتَعَدُوا عَنْهُ وَأَيِسُوا مِنْ عَوْدِهِ إِلَيْهِمْ، فَاحْتِيجَ إِلَى الْإِعْلَامِ بِبَرَكَتِهِ.


(١) مقَال حَرَّره عَارِف عَارِف فِي الْجُمْلَة الْمُسَمَّاة رِسَالَة الْعلم بالمملكة الأردنية فِي عدد ٢ من السّنة ١٢ كانون الأول سنة ١٩٦٨.