وَاخْشَوْنِ [الْمَائِدَة: ٤٤] . وَحَمْلُهَا عَلَى مَعْنَى الْحَالِ هُوَ الَّذِي حَمَلَ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى جَعْلِ الْكَلَام عتابا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأَحَقُّ اسْمُ تَفْضِيلٍ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ فَهُوَ بِمَعْنَى حَقِيقٍ، إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ مَا يُفِيدُ وُقُوعَ إِيثَارِ خَشْيَةِ النَّاسِ عَلَى خَشْيَةِ اللَّهِ، وَلَا مَا يُفِيدُ تَعَارُضًا بَيْنَ الْخَشْيَتَيْنِ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى تَرْجِيحِ خَشْيَةِ اللَّهِ عَلَى خَشْيَةِ النَّاسِ، وَالْمَعْنَى: وَاللَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ تَخْشَاهُ.
وَلَيْسَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ قَدَّمَ خَشْيَةَ النَّاسِ عَلَى خَشْيَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُ شَيْئًا فَعَمِلَ بِخِلَافِهِ.
وَبِهَذَا تعلم أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فَعَلَ إِلَّا مَا يُرْضِي اللَّهَ، وَقَدْ قَامَ بِعَمَلِ الصَّاحِبِ النَّاصِحِ حِينَ أَمَرَ زَيْدًا بِإِمْسَاكِ زَوْجِهِ وَانْطَوَى عَلَى عِلْمٍ صَالِحٍ حِينَ خشِي مَا سيفترصه الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْقَالَةِ إِذَا تَزَوَّجَ زَيْنَبَ خُفْيَةً أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ فِتْنَةً لِضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ
كَقَوْلِهِ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ رَأَيَاهُ فِي اللَّيْلِ مَعَ زَيْنَبَ فَأَسْرَعَا خُطَاهُمَا فَقَالَ: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ زَيْنَبُ. فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا وَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مجْرى الدَّم وَإِنِّي خَشِيَتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبكُمَا» .
فمقام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُمَّةِ مَقَامُ الطَّبِيبِ النَّاصِحِ فِي بِيمَارِسْتَانَ يَحْوِي أَصْنَافًا مِنَ الْمَرْضَى إِذَا رَأَى طَعَامًا يُجْلَبُ لِمَا لَا يَصْلُحُ بِبَعْضِ مَرْضَاهُ أَنْ يَنْهَى عَنْ إِدْخَالِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ مِنَ الْمَرْضَى مَنْ لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ بِمَرَضِهِ وَيَزِيدُ فِي عِلَّتِهِ أَوْ يُفْضِي إِلَى انْتِكَاسِهِ.
وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: وَتَخْشَى النَّاسَ عِتَابٌ وَلَا لَوْمٌ، وَلَكِنَّهُ تَذْكِيرٌ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ تَوَقِّيهِ قَالَةَ الْمُنَافِقِينَ. وَحَمَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى مَعْنَى العتاب وَلَيْسَ من سِيَاقِ الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِيهِ فَأَحْسَبُهُمْ مُخْطِئِينَ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ تَشْجِيعٌ لَهُ وَتَحْقِيرٌ لِأَعْدَاءِ الدِّينِ وَتَعْلِيمٌ لَهُ بِأَنْ يَمْضِيَ فِي سَبِيلِهِ وَيَتَنَاوَلَ مَا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ وَلِرُسُلِهِ مِنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ مُبَاحٌ مِنْ مَرْغُوبَاتِهِمُ وَمَحَبَّاتِهِمْ إِذَا لَمْ يَصُدُّهُمْ شَيْء من ذَلِك عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا كانَ عَلَى النَّبِيءِ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ [الْأَحْزَاب: ٣٨، ٣٩] ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute