أَنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ كَثِيرًا كَافِرِينَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، وَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ كُلَّ وَاقِعٍ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ لَا يَقَعُ فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يُرِيدُ فَأَنْتَجَ ذَلِكَ بِطَرِيقَةِ الشَّكْلِ الثَّالثِ أَنْ يُقَالَ: كُفْرُ الْكَافِرُ مُرَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الْأَنْعَام: ١١٢] وَلَا شَيْءَ من الْكفْر بمرضي لِلَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ، يَنْتِجُ الْقِيَاسُ بَعْضُ مَا أَرَادَهُ الله لَيْسَ بمرضي لَهُ فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْإِرَادَةُ وَالرِّضَى حَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَأَنْ يَكُونَ لَفْظَاهُمَا غَيْرَ مُتَرَادِفَيْنِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ إِنَّ الْإِرَادَةَ غَيْرُ الرِّضَى، وَالرِّضَى غَيْرُ الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ، فَالْإِرَادَةُ وَالْمَشِيئَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَالرِّضَى وَالْمَحَبَّةُ وَالِاخْتِيَارُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهَذَا حَمْلٌ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى مَعَانٍ يُمْكِنُ مَعَهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَات قَالَ التفتازانيّ: وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ.
وَيَنْبَنِي عَلَيْهَا الْقَوْلُ فِي تَعَلُّقِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ رَاجِعًا إِلَى خِطَابِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الْأَنْعَام: ١١٢] رَاجِعًا إِلَى تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِالْإِيجَادِ وَالْخَلْقِ. وَيَتَرَكَّبُ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا وَمَجْمُوعِ نَظَائِرِ كُلٍّ مِنْهُمَا الِاعْتِقَادُ بِأَنَّ لِلْعِبَادِ كَسْبًا فِي أَفْعَالِهِمُ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ تَتَعَلَّقُ إِرَادَتُهُ بِخَلْقِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ عِنْدَ تَوَجُّهِ كَسْبِ الْعَبْدِ نَحْوَهَا، فَاللَّهُ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعَبْدِ غَيْرُ مُكْتَسِبٍ لَهَا. وَالْعَبْدُ مُكْتَسِبٌ غَيْرُ خَالِقٍ، فَإِنَّ الْكَسْبَ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ هُوَ الِاسْتِطَاعَةُ الْمُفَسَّرَةُ عِنْدَهُ بِسَلَامَةِ أَسْبَابِ الْفِعْلِ وَآلَاتِهِ، وَهِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْقُدْرَةِ وَالْجَبْرِ، أَيْ هِيَ دُونَ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ وَفَوْقَ تَسْخِيرِ الْجَبْرِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الدِّينِيَّةِ النَّاطِقَةِ بِمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَبَيْنَ دَلَالَةِ الضَّرُورَةِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ حَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ وَحَرَكَةِ الْمَاشِي، وَجَمْعًا بَيْنَ أَدِلَّةِ عُمُومِ الْقُدْرَةِ وَبَيْنَ تَوْجِيهِ الشَّرِيعَةِ خِطَابَهَا لِلْعِبَادِ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْكُفْرِ وَالسَّيِّئَاتِ وَتَرْتِيبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ رَأَوُا الِاتِّحَادَ بَيْنَ مَعَانِي الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالرِّضَى وَهُوَ قَولُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ وَجَمِيعِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ فَسَلَكُوا فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ مَحْمَلَ لَفْظِ لِعِبادِهِ عَلَى الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، أَيْ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتَأْنَسُوا لِهَذَا الْمَحْمَلِ بِأَنَّهُ الْجَارِي عَلَى غَالِبِ اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ فِي لَفْظَةِ (الْعِبَادِ) لِاسْمِ اللَّهِ، أَوْ ضَمِيرِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute