كَقَوْلِهِ: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الْإِنْسَان: ٦] ، قَالُوا: فَمَنْ كَفَرَ فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ كُفْرَهُ وَمَنْ آمَنَ فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ إِيمَانَهُ، وَالْتَزَمَ
كِلَا الْفَرِيقَيْنِ الْأَشَاعِرَةُ وَالْمَاتُرِيدِيَّةُ أَصْلَهُ فِي تَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْمُسَمَّى بِالْكَسْبِ، وَلَمْ يَخْتَلِفَا إِلَّا فِي نِسْبَةِ الْأَفْعَالِ لِلْعِبَادِ: أَهِيَ حَقِيقِيَّةٌ أَمْ مَجَازِيَّةٌ، وَقَدْ عُدَّ الْخِلَافُ فِي تَشْبِيهِ الْأَفْعَالِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ لَفْظِيًّا.
وَمِنَ الْعَجِيبِ تَهْوِيلُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِهَذَا الْقَوْلِ إِذْ يَقُولُ: «وَلَقَدْ تَمَحَّلَ بَعْضُ الْغُوَاةِ لِيُثْبِتَ لِلَّهِ مَا نَفَاهُ عَنْ ذَاتِهِ مِنَ الرِّضَى بِالْكُفْرِ فَقَالَ: هَذَا مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ إِلَخْ» ، فَكَانَ آخِرُ كَلَامِهِ رَدًّا لِأَوَّلِهِ وَهَلْ يُعَدُّ التَّأْوِيلُ تَضْلِيلًا أَمْ هَلْ يُعَدُّ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ بِالدَّلِيلِ مِنَ النَّادِرِ الْقَلِيلِ.
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الْقُدْرَةَ لِلْعِبَادِ عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ غَيْرُ مُقْدُورَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَحْمِلُونَ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ مِنْ نِسْبَةِ أَفْعَالٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ أَوْ إِلَى قُدْرَتِهِ أَنَّهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ خَالِقُ أُصُولِهَا وَأَسْبَابِهَا، وَيَحْمِلُونَ مَا وَرَدَ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلِذَلِكَ أَوْرَدُوا هَذِهِ الْآيَةَ لِلِاحْتِجَاجِ بِهَا. وَقَدْ أَوْرَدَهَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي «الْإِرْشَادِ» فِي فَصْلٍ حَشَرَ فِيهِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنْ تَكْفُرُوا وَالْمَعْنَى: وَإِنْ تَشْكُرُوا بَعْدَ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ فَتُقْلِعُوا عَنِ الْكُفْرِ وَتَشْكُرُوا اللَّهَ بِالِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالتَّنْزِيهِ يَرْضَ لَكُمُ الشُّكْرَ، أَيْ يُجَازِيكُمْ بِلَوَازِمِ الرِّضَى. وَالشُّكْرُ يَتَقَوَّمُ مِنِ اعْتِقَادٍ وَقَوْلٍ وَعَمَلٍ جَزَاءً عَلَى نِعْمَةٍ حَاصِلَةٍ لِلشَّاكِرِ مِنَ الْمَشْكُورِ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: يَرْضَهُ عَائِدٌ إِلَى الشُّكْرِ المتصيّد من فعل إِنْ تَشْكُرُوا.
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.
كَأَنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ قَبْلَهَا أَنَّ فِي الْمُخَاطَبِينَ كَافِرًا وَشَاكِرًا وَهُمْ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ بَيْنَهُمْ وَشَائِجُ الْقَرَابَةِ وَالْوَلَاءِ، فَرُبَّمَا تَحَرَّجَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَنْ يَمَسَّهُمْ إِثْمٌ مِنْ جَرَّاءَ كُفْرِ أَقْرِبَائِهِمْ وَأَوْلِيَائِهِمْ، أَوْ أَنَّهُمْ خَشَوْا أَنْ يُصِيبَ اللَّهُ الْكَافِرِينَ بِعَذَابٍ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute