رَبَّهُمْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ تُسَلِّيكَ عَنْ مُعَامَلَتِهِمْ إِيَّاكَ عَلَى نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ [النِّسَاء: ١٥٣] ، وَلِهَذَا لَا تَجِدُ نَظَائِرَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَعْنَاهَا مُفْتَتَحًا بِمِثْلِ هَذَا الضَّمِيرِ لِأَنَّ مَوْقِعَ تِلْكَ النَّظَائِرِ لَا تُمَاثِلُ مَوْقِعَ هَذِهِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُمَا مُتَمَاثِلًا، فَهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةُ خَاصَّةٌ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَلَكِنَّ نَظْمَ هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَ صَالِحًا لِإِفَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى وَلِإِفَادَةِ مَعْنًى آخَرَ مُقَارِبٍ لَهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هَذَا حِكَايَةَ خُلُقٍ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ مُرْتَكِزٍ فِي الْجِبِلَّةِ لَكِنَّ مَظَاهِرَهُ مُتَفَاوِتَةٌ بِتَفَاوُتِ أَفْرَادِهِ فِي التَّخَلُّقِ بِالْآدَابِ الدِّينِيَّةِ، فَيُحْمَلُ الْإِنْسانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى جِنْسِ بَنِي آدَمَ وَيُحْمَلُ الْفَرَحُ عَلَى مُطْلَقِهِ الْمَقُولِ عَلَيْهِ بِالتَّشْكِيكِ حَتَّى يَبْلُغَ مَبْلَغَ الْبَطَرِ، وَتُحْمَلُ السَّيِّئَةُ الَّتِي قَدَّمَتْهَا أَيْدِيهِمْ عَلَى مَرَاتِبِ السَّيِّئَاتِ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ مَبْلَغَ الْإِشْرَاكِ، وَيُحْمَلُ وَصْفُ كَفُورٌ عَلَى مَا يَشْمَلُ اشْتِقَاقُهُ مِنَ الْكُفْرِ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَالْكُفْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ.
وَلِهَذَا اخْتَلَفَتْ مَحَامِلُ الْمُفَسِّرِينَ لِلْآيَةِ. فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهَا عَلَى خُصُوصِ الْإِنْسَانِ
الْكَافِرِ بِاللَّهِ مِثْلَ الزَّمَخْشَرِيِّ وَالْقُرْطُبِيِّ وَالطِّيبِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهَا عَلَى مَا يَعُمُّ أَصْنَافَ النَّاسِ مِثْلَ الطَبَرِيِّ وَالْبَغَوِيِّ وَالنَّسَفِيِّ وَابْنِ كَثِيرٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهَا عَلَى إِرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَالثَّانِيَ مُنْدَرِجٌ بِالتَّبَعِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْبَيْضَاوِيِّ وَصَاحِبِ الْكَشْفِ وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْكَوَاشِيِّ فِي تَلْخِيصِهِ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْمُرَادُ بِ الْإِنْسانَ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ وَالْمَوْضِعِ الثَّانِي مَعْنًى وَاحِدٌ وَهُوَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ، أَيْ إِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ، وَأَنَّ النَّاسَ كَفُورُونَ، وَيَكُونُ اسْتِغْرَاقًا عُرْفِيًّا أُرِيدَ بِهِ أَكْثَرُ جِنْسِ الْإِنْسَانِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لِأَنَّ أَكْثَرَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكُونَ، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ أَيْ شَدِيدُ الْكُفْرِ قَوِيُّهُ، وَلِقَوْلِهِ: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أَيْ مِنَ الْكُفْرِ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ بِالنَّاسِ إِلَى التَّعْبِيرِ بِالْإِنْسَانِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْخُلُقَ الْمُخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ هُوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّوْعِ لَا يُزِيلُهُ إِلَّا التَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِ فَالَّذِينَ لَمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute