ثُمَّ تَخْيِيبَهُمْ بِضَرِبِ السُّورِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْخَيْبَةَ بَعْدَ الطَّمَعِ أَشَدُّ حَسْرَةً. وَهَذَا اسْتِهْزَاءٌ كَانَ جَزَاءً عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِسْخَارِهِمْ بِهِمْ، فَهُوَ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [التَّوْبَة: ٧٩] .
ووَراءَكُمْ: تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى ارْجِعُوا إِذِ الرُّجُوعُ يَسْتَلْزِمُ الْوَرَاءَ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ:
رَجَعَ الْقَهْقَرَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظرفا لفعل فَالْتَمِسُوا نُوراً، أَيْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي خَلْفَكُمْ.
وَتَقْدِيمُهُ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ فَيَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الْإِغْرَاءِ بِالْتِمَاسِ النُّورِ هُنَاكَ وَهُوَ أَشَدُّ فِي الْإِطْمَاعِ، لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ النُّورَ يُتَنَاوَلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَبِذَلِكَ الْإِيهَامِ لَا يَكُونُ الْكَلَامُ كَذِبًا لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعَارِيضِ لَا سِيَّمَا مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ وَراءَكُمْ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى ارْجِعُوا.
وَضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ.
وَضَرْبُ السُّورِ: وَضْعُهُ، يُقَالُ: ضَرَبَ خَيْمَةً، قَالَ عَبْدَةُ بْنُ الطَّيِّبِ:
إِنَّ الَّتِي ضَرَبَتْ بَيْتَا مُهَاجَرَةً ... بِكُوفَةِ الْجُنْدِ غَالَتْ وُدَّهَا غول
وَضمن فَضُرِبَ فِي الْآيَةِ مَعْنَى الْحَجْزِ فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ، أَيْ ضُرِبَ بَيْنَهُمْ سُورٌ لِلْحَجْزِ بِهِ بَيْنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، خَلَقَهُ اللَّهُ سَاعَتَئِذٍ قَطْعًا لِأَطْمَاعِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ، فَحَقَّ بِذَلِكَ التَّمْثِيلُ الَّذِي مَثَّلَ اللَّهُ بِهِ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧] . وَأَنَّ الْحَيْرَةَ وَعَدَمَ رُؤْيَةِ الْمَصِيرِ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
وَلَعَلَّ ضَرْبَ السُّورِ بَيْنَهُمْ وَجَعْلَ الْعَذَابِ بِظَاهِرِهِ وَالنَّعِيمِ بِبَاطِنِهِ قُصِدَ مِنْهُ التَّمْثِيلُ لَهُمْ بِأَنَّ الْفَاصِلَ بَيْنَ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ هُوَ الْأَعْمَالُ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي يَعْمَلُهَا النَّاسُ فِي الدُّنْيَا مِنْهَا مَا يُفْضِي بِعَامِلِهِ إِلَى النَّعِيمِ وَمِنْهَا مَا يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى الْعَذَابِ فَأَحَدُ طَرَفَيِ السُّورِ مِثَالٌ لِأَحَدِ الْعَمَلَيْنِ وَطَرَفُهُ الْآخَرُ مِثَالٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute