للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الرِّيبَةِ أَرْجَى إِلَى الظَّنِّ بِحُصُولِ الصِّدْقِ لِكَثْرَةِ مَا ضَبَطَ عَلَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مِمَّا يَنْفِي الْغَفْلَةَ وَالتَّسَاهُلَ، بَلْهَ الزُّورَ وَالْجَوْرَ مَعَ تَوَقِّي سُوءِ السُّمْعَةِ.

وَمَعْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ: أَنْ يُؤَدُّوا الشَّهَادَةَ. جُعِلَ أَدَاؤُهَا وَالْإِخْبَارُ بِهَا كَالْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ مَكَانٍ.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلى وَجْهِها، أَيْ عَلَى سُنَّتِهَا وَمَا هُوَ مُقَوِّمُ تَمَامِهَا وَكَمَالِهَا، فَاسْمُ الْوَجْهِ فِي مِثْلِ هَذَا مُسْتَعَارٌ لِأَحْسَنِ مَا فِي الشَّيْءِ وَأَكْمَلِهِ تَشْبِيهًا بِوَجْهِ الْإِنْسَانِ، إِذْ هُوَ الْعُضْوُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الْمَرْءُ وَيَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ. وَلَمَّا أُرِيدَ مِنْهُ مَعْنَى الِاسْتِعَارَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى،

وَشَاعَ هَذَا الْمَعْنَى فِي كَلَامِهِمْ، قَالُوا: جَاءَ بِالشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ عَلَى وَجْهِهِ، فَجَعَلُوا الشَّيْءَ مَأْتِيًّا بِهِ، وَوَصَفُوهُ بِأَنَّهُ أُتِيَ بِهِ مُتَمَكِّنًا مِنْ وَجْهِهِ، أَيْ مِنْ كَمَالِ أَحْوَالِهِ. فَحَرْفُ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمَكُّنُ، مِثْلُ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥] .

وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَال من بِالشَّهادَةِ، وَصَارَ ذَلِكَ قَرِينَةً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْوَجْهِ غَيْرُ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ.

وَسُنَّةُ الشَّهَادَةِ وَكَمَالُهَا هُوَ صِدْقُهَا وَالتَّثَبُّتُ فِيهَا وَالتَّنَبُّهُ لِمَا يَغْفُلُ عَنْهُ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَحْوَالِ الَّتِي قَدْ يَسْتَخِفُّ بِهَا فِي الْحَالِ وَتَكُونُ لِلْغَفْلَةِ عَنْهَا عَوَاقِبُ تُضَيِّعُ الْحُقُوقَ، أَيْ ذَلِكَ يُعَلِّمُهُمْ وَجْهَ التَّثَبُّتِ فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ وَتَوَخِّي الصِّدْقِ، وَهُوَ يَدْخُلُ فِي قَاعِدَةِ لُزُومِ صِفَةِ الْيَقَظَةِ لِلشَّاهِدِ.

وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ الْإِعْذَارِ فِي الشَّهَادَةِ بِالطَّعْنِ أَوِ الْمُعَارَضَةِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مَا يَحْمِلُ شُهُودَ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّثَبُّتِ فِي مُطَابَقَةِ شَهَادَتِهِمْ، لِلْوَاقِعِ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ وَالْإِعْذَارَ يَكْشِفَانِ عَنِ الْحَقِّ.

وَقَوْلُهُ أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يَأْتُوا بِاعْتِبَارِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الْمَجْرُورَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جُمْلَةَ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَفَادَتِ الْإِتْيَانَ بِهَا صَادِقَةً لَا نُقْصَانَ فِيهَا بِبَاعِثٍ مِنْ أَنْفُسِ الشُّهُودِ، وَلِذَلِكَ قَدَّرْنَاهُ بِمَعْنَى أَنْ يَعْلَمُوا كَيْفَ تَكُونُ الشَّهَادَةُ الصَّادِقَةُ. فَأَفَادَتِ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا إِيجَادَ وَازِعٍ لِلشُّهُودِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَفَادَتِ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ وَازِعًا هُوَ تَوَقُّعُ ظُهُورِ كَذِبِهِمْ.