[تفسير قوله تعالى: (إن في ذلك لآية وإن ربك لهو العزيز الرحيم)]
قال ربنا سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:١٢١]، وهذه آية عظيمة، فلو أن عندكم أفهاماً تفهم، وعقولاً تستجيب، وقلوباً تطيع رب العالمين سبحانه لكفتكم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:١٢١ - ١٢٢].
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:١٢١]، وهذه التذكرة هي للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه، وهي أن الأكثرين من أهل الأرض على ضلال، وأن الأقلين هم المؤمنون، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:١٢١].
وهذه السورة سورة مكية، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة والذين استجابوا له مائة من الناس تقريباً، وما زادوا على ذلك، فعندما ينظر إلى الكفار وهم ألوف والذين استجابوا له ليسوا إلا عشرات قد يحزن عليه الصلاة والسلام، فيقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:١٢١] أي: بل كان أكثرهم من الكفار، فلا تنظر إلى الكثرة ولكن انظر إلى نصر الله سبحانه العظيم، فهو الذي نصر الضعفاء، وهو الذي مكن لهم بعد ذلك، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:١٢٢].
فذكر كلمة (ربك) التي تعني: الربوبية؛ لأن المقام مقام ربوبية، فالفعال لما يريد هو الرب سبحانه وتعالى، والمعز لمن يشاء والمذل لمن يشاء من العبيد هو الرب سبحانه وتعالى، فيذكر تعالى أن جنابه ممتنع، ولا يقدر أحد أن يمانع أو أن يرفض ما يأمر الله عز وجل به، فيأتي أمر الله على هؤلاء كما يريد الله، فقد أمر الأرض أن تنفجر عيوناً فانفجرت عيوناً، وأمر السماء أن تنزل أمطاراً فانفتحت أبواب السماء بماء منهمر، فأغرق الكفار وأنجى المؤمنين الأبرار.
ثم قال سبحانه وتعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:٤٤].
وأمر الله سبحانه للشيء إنما هو كن فيكون، {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود:٤٤] فنسب الماء إلى الأرض؛ لأن الأرض في باطنها ماء خلقه الله عز وجل، ففيها المياه الجوفية التي كان الناس لا يعرفون عنها شيئاً، فإذا بهم يعرفون الآن أن المياه الجوفية عظيمة جداً، وأن الأرض ممتلئة بالمياه الجوفية، فيأتي رزق الله عز وجل للعباد من الأرض ومن السماء، إذ ينزل لهم ماء من السماء، ويخرج لهم عيوناً من باطن الأرض.
قال تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود:٤٤] يعني: ما خرج منك من ماء فابلعيه، {وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود:٤٤] أي: لا تنزلي ماء بعد ذلك، {وَقُضِيَ الأَمْرُ} [هود:٤٤]، فاستوت السفينة على جبل الجودي، وهو كما قالوا: جبل في تركيا اسمه جبل الجودي، وهم الآن يبحثون حول هذا الجبل عن سفينة نوح على نبينا وعليه الصلاة السلام، وجعلوا هذا المكان مزاراً للآثار، فالله أعلم.
فالله سبحانه ذكر أنها استوت على هذا الجبل، واسمه جبل الجودي {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:٤٤] أي: هلاكاً وسحقاً لكل قوم يكذبون رسل الله سبحانه، وفي هذه الآيات العظيمة كان قبلها الآيات في إنجاء موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وإغراق فرعون وجنوده ما يبهر الألباب من عظمة قدرة الله تعالى، وفي قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام وأن الله أنجاه من النار فخرج وترك قومه وهاجر إلى بلاد الشام يدعو إلى ربه، فنصره ربه سبحانه بالحجة والبيان، كل ذلك يجعل المؤمن يثق بوعد الله ونصره، وهنا ذكر نوحاً وقومه، ثم يذكر بعد ذلك قصة عاد وقصة هود مع قومه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.