[ذكر ما جاء من قصة الإفك]
يقول الإمام البخاري رحمه الله: وشاور -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- علياً وأسامة فيما رمى به أهل الإفك عائشة، فسمع منهما حتى نزل القرآن.
لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع، ومعه السيدة عائشة رضي الله عنها ورجع النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت السيدة عائشة استعارت من أسماء قلادة لها، فضاعت القلادة من السيدة عائشة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرحيل، وذهبت السيدة عائشة تبحث عن القلادة، وجاء من كانوا يحملون هودجها، وظنوا أنها بداخل الهودج وهو المحمل الذي يحمل فوق الجمل، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم رضوان الله تبارك وتعالى عليهن كن مستورات لا أحد ينظر إليهن، فحملوا الهودج وكانت خفيفة وظنوها بداخله، وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم لأمر يريده الله تبارك وتعالى، وبعدما وصلوا إلى مكان ما افتقدوا عائشة رضي الله عنها، فلبثت السيدة عائشة في هذا المكان، فإذا برجل كان في مؤخر جيش النبي صلى الله عليه وسلم في أمر من الأمور يجد السيدة عائشة في مكانها فيحملها رضي الله تبارك وتعالى عنه، واسمه صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، فلما رآها إذا به يتعجب ويقول: سبحان الله! وما زاد على ذلك، وأتى بجمله وأناخه، فركبت عائشة رضي الله عنها وأخذها وانطلق بها إلى المدينة، وإذا بالمسلمين يصلون وليست معهم عائشة، فتكلم أهل النفاق في ذلك، ورأس النفاق كان هذا المجرم عبد الله بن أبي بن سلول، والمفروض أن المسلمين قد تعلموا منه درساً في يوم أحد، فمثل هذا لا يصدق فيما يقول، فإذا به يشيع بين المسلمين أن السيدة عائشة أحدثت حدثاً، فإذا بالبعض يتكلم وهو يستخفي ويختبئ ولا يظهر ذلك إلا فيمن حوله، ولكن المسلمين تكلموا فيما بينهم حتى وصل الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وجرت قصة طويلة، وفي النهاية قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول للناس: (من يعذرني في رجل قال على أهل بيتي.
كذا وكذا؟) يعني: من يعذرني إن فعلت فيه شيئاً، قال: (والله! ما علمت على أهلي إلا خيراً، برجل والله ما دخل بيتي إلا معي)، وعبد الله بن أبي بن سلول هذا من الخزرج، فقام الأوس وقالوا: (يا رسول الله! إن كان منا مرنا بأمرك فقتلناه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا بأمرك ففعلنا ما أمرت)، فإذا بالخزرج تأخذهم نعرة الجاهلية فقالوا: (كذبتم والله لا تقدروا أن تفعلوا شيئاً).
وهذه مصيبة أيما مصيبة، فقد ابتلي النبي صلى الله عليه وسلم بأناس يتكلمون عن زوجته وأحب النساء إليه صلى الله عليه وسلم، ولما أراد أن يقف على المنبر من أجل أن يعذروه صلى الله عليه وسلم إذا بهم يتعرض بعضهم على بعض، وكادوا يقتتلون في المسجد، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يهدئهم ويرجع إلى بيته صلوات الله وسلامه عليه، ويستشير علياً رضي الله عنه، ويستشير أسامة، فيسأل علياً: ما هو رأيك في هذا؟ وتأخر الوحي عنه حتى يرينا صبر عائشة رضي الله عنها، وأن الابتلاء كان حتى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا ابتلي إنسان بمثل ذلك صبر، قال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:٤٣] فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يستشير أسامة، وكان يلقب أسامة بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوه زيد بن حارثة رضي الله عنه الذي كان في يوم من الأيام يدعى بـ زيد بن محمد، فلما نزل تحريم التبني كان زيد حب النبي صلى الله عليه وسلم، وابنه أسامة بن زيد حب، أي: حبيب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رباه النبي صلوات الله وسلامه عليه هو وأباه.
فلما استشار أسامة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أهلك يا رسول الله! والله ما علمنا عليهم إلا خيراً، فاستشار علياً رضي الله عنه، فإذا بـ علي يتكلم الكلام الذي يليق بإنسان كبير عاقل عنده حكمة، حيث إن الوحي تأخر عنه، وأصابه غم في بيته وبين المسلمين، والأمر أسهل من ذلك أن ينتبه لأمر المسلمين ولأمر الدعوة، فقال علي: طلقها يا رسول الله! والنساء كثيرات، ودامت الوقيعة بين عائشة وبين علي فترة طويلة، إذ لم يكن في نفس علي شيء من عائشة ولم يكن يتهمها رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولكنه رجل دولة، رجل ينظر إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس متفرغاً حتى ينظر لأمر البيت وأمر كذا، فلا بد أن ينتبه لأمر الدعوة، وربنا يقضي ما يشاء تبارك وتعالى، فلما استشارهما صلى الله عليه وسلم لم ينفذ رأيهما ولكنه استشار، واستشار واحدة أخرى كانت تخدم عائشة رضي الله عنها وكانت أمة وأعتقتها السيدة عائشة رضي الله عنها وهي بريرة رضي الله عنها، فاستشارها فقالت: (يا رسول الله! والله ما علمنا على أهلك إلا خيراً، غير أنها جارية حديثة السن كانت تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله، فهذه لما استشارها النبي صلى الله عليه وسلم قالت الحقيقة، فأقصى خطأ في عائشة أنها تعمل العجين وتنساه وتنام.
فلما استشار النبي صلى الله عليه وسلم في النهاية سكت صلوات الله وسلامه عليه، وانتظر أمر الله سبحانه وتعالى، وكانت عائشة في هذا الوقت عند النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: ولم أجد منه ما كنت آراه، أي: لم يعد لطيفاً يدخل ويسلم علي ويقبلني، وعائشة غير منتبهة تماماً لما يدور حولها، ولما رجعت عائشة أصابها شيء من التعب، فأرادت في يوم من الأيام أن تخرج لقضاء حاجتها، فكانت معها أم مسطح بن أثاثة أحد الذين تكلموا في أمر السيدة عائشة رضي الله عنها، وكان رجلاً مؤمناً طيباً، ولكنه سمع فتكلم، فدعت عليه أمه، وحينما خرجت مع السيدة عائشة رضي الله عنها كادت تقع فقالت: تعس مسطح، فقالت عائشة رضي الله عنها: (لم تدعين عليه؟ فقالت لها: أو ما بلغك ما قال؟ قالت: وما قال؟ فحدثتها بالحديث، فرجعت مصابة بالحمى في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: أصابتني حمى بنافض، ورجعت إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي الحمى، وتعبت تعباً شديداً، ثم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ائذن لي أذهب إلى والدي، فأذن لها وذهبت إلى أبيها وإلى أمها فسألتهما: هل سمعتم هذا الذي حدث؟ فأجابا: نعم، سمعنا بذلك، فقالت لها أمها تطيب قدرها: يا بنية! قلما كانت امرأة وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، أي: أنت امرأة جميلة وعند النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يحبك، والناس من الضروري أن يتكلموا عنك، فلا تهتمي بهذا الشيء، فإذا بالسيدة عائشة تبكي وما انقطع دمعها، وأخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها قبل أن تذهب إلى أبويها، ويخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم ينزل وحي في ذلك، فينصح أهل بيته قائلاً: (يا عائشة! إن كنت ألممت بأمر فتوبي إلى الله فإن الله غفور رحيم) حتى قالت عائشة: فانقطع دمعي، إذ كانت تبكي قبل ذلك، فلما قال ذلك أخذها الغيظ من هذا، حتى النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك! وهو يحبها ويعرف قدرها، قالت: فانقطع دمعي وقلت: والله لو أنني أخبرتكم بشيء أنا صادقة فيه والله يعلم أني صادقة تكذبونني فيه، وإن أخبرتكم بشيء أكذب عليكم فيه صدقتموني، أي: لو قلت لكم: أنه فعلاً حصل هذا الذي أشيع عني كنتم ستصدقون، وإن كنت سأصدق في القول فلا أحد سيأخذ بكلامي، ثم استأذنته وذهبت إلى أبيها وقالت: ولا أقول إلا كما قال أبو يوسف -قالت: ونسيت اسمه، نسيت اسم يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بسبب الغم الذي أصابها- لا أقول إلا كما قال أبو يوسف: فصبر جميل، أي: أصبر الصبر الجميل حتى يأتي أمر الله سبحانه وتعالى، ونزل القرآن وإذا بالله عز وجل يقول في كتابه العظيم: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:١١].
فالحكمة هنا: أن هذا خير لك يا رسول الله أن تبتلى فتصبر، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصبر ليبين للناس أن العرض فيه حكم الله سبحانه وتعالى، والذين قذفوا نزل فيهم الحد بأن يجلدوا، وأفلت عبد الله بن أبي بن سلول لأنه ما أظهر هذا أمام الناس، إذ كان قوله في السر، فالذين أظهروه هم الذين أخذوا وأقيم عليهم الحد، وكان منهم مسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش أخت زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كانوا يتكلمون عن ذلك قالت السيدة عائشة عن زينب: حفظها الله بالورع، وأختها وقعت فيه، أما هي فلم تقع في ذلك مع أنها ضرتها، فقد كانت السيدة زينب بنت جحش ورعة لم تقع في ذلك.
وعلم الله عز وجل المؤمنين الصبر بذلك، فصبر النبي صلى الله عليه وسلم، وصبر أبو بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه، حيث إن عائشة هي ابنته، والذي كان يتكلم عنها هو ابن خالة أبي بكر الصديق مسطح بن أثاثة وكان رجلاً فقيراً، وكان أبو بكر ينفق عليه، ومع ذلك كان من أول من تكلم على السيدة عائشة هو مسطح، فأقيم عليه ال