[هجرة إبراهيم إلى مكة بإسماعيل وأمه هاجر]
الله سبحانه بحلمه ورحمته نظر إلى سارة أنها صبرت مع إبراهيم عمراً طويلاً، فيأمر إبراهيم بأن يأخذ ابنه وأم ابنه إلى مكة ويتركها هنالك، وهذا بلاء آخر لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، حيث إنه سيحرم من رؤية ابنه وليس هو الذي سيربيه، فأمره الله أن يذهب به إلى مكة ويتركه؛ حتى لا يكون في قلب إبراهيم مكان إلا لله عز وجل وحده لا شريك له، فيذهب به إلى هنالك ويتركه مع أم ولده وهي هاجر في مكة في أرض لا أحد فيها، ولا ماء فيها ولا زرع، ويعطيها سقاء في إناء، وجراباً فيه تمر ويتركها، وهي تقول: إلى من تتركني في هذا المكان الذي لا إنس فيه ولا ماء ولا طعام؟! ويتركها وينصرف حتى لا يظهر التأثر أمامها، ثمَّ تسأله مرات، فإذا بها تقول: آلله أمرك بذلك؟ قال: نعم، قالت: إذاً فلا يضيعنا.
فكان عندها الثقة بالله عز وجل، وأن الله طالما أمر إبراهيم بذلك فإن الله لن يضيعها هي وابنها، وتركها، فلما توارى عنها وراء ثنية، أي: أكمة مرتفعة دعا ربه سبحانه، وأظهر حزنه، وأظهر الشفقة التي كان يخفيها عن هاجر وعن ابنها، قال تعالى عنه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:٣٧]، فيدعو ربه سبحانه ويستجيب الله سبحانه وتعالى له، فيأتي إلى هذا المكان وفد من جرهم ويقيمون في هذا المكان.
والغرض أن الله سبحانه وتعالى إذا قطع عن إبراهيم شيئاً، فالله عز وجل يصله دائماً، ويتعرض إسماعيل للبلاء في هذا المكان وأمه كذلك، فالأم ترى ابنها يكاد يموت أمامها، ولا لبن في ثديها ولا طعام، وتذهب من جبل الصفا إلى جبل المروة ذاهبة آتية، وتدعو ربها سبحانه حتى يظهر لها جبريل عليه السلام ويبحث بعقبه في الأرض، فتخرج زمزم العين المعين، التي تكون للخلق جميعهم إلى يوم الدين، نعمة من الله سبحانه وتعالى وشفاء سقيم، وطعام جائع، فمن شرب من زمزم وسأل الله عز وجل فالله يعطيه بفضله وبكرمه سبحانه.
ويشب إسماعيل ويأتي أبوه إليه، ويأخذه ويتوجه به إلى مكان ويقول: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:١٠٢]، وهو ما زال غلاماً، والغلام: الشاب الصغير، في هذا الوقت يأتيه أبوه ويقول: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ} [الصافات:١٠٢] أي: رؤيا منامية، {أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:١٠٢]، وكأنه يشاوره، وإن كان في الحقيقة أنَّ إبراهيم سينفذ أمر الله سبحانه، ولكن يريد أن يطيب خاطر ابنه ويطيب قلبه لهذا الشيء، وكأنه يقول: ما رأيك؟ ربي يأمرني أنني أذبحك! {فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:١٠٢]، فإذا بولده إسماعيل يقول: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:١٠٢].
وقراءة حفص عن عاصم: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ} [الصافات:١٠٢]، وقراءة الجمهور: (يا بنيِّ إني أرى في المنام أني أذبحك).
وقوله تعالى: {إِنِّي أَرَى} [الصافات:١٠٢]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وأبي جعفر: (إِنِّيَ أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّيَ أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى).
وقوله تعالى: (ماذا ترى) قرأها الجمهور: {تَرَى}، وقرأها حمزة والكسائي وخلف: (تُرِى) بالبناء للمجهول، وأيضاً بالإمالة؛ لأن قراءتهم لهذه الكلمة بالإمالة.
قال الله تعالى: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:١٠٢]، فقوله تعالى: {قَالَ يَا أَبَتِ} [الصافات:١٠٢]، هذه قراءة الجمهور، وقرأها ابن عامر وأبو جعفر: (قَالَ يَا أَبَتَ).
قال تعالى: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:١٠٢]، فظهر حلم إسماعيل عليه الصلاة والسلام حين قال لأبيه ذلك، ويقول: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:١٠٢]، وهذه إشارة من الله لإبراهيم أنه بشره بغلام حليم، فالحلم من الصبر، والصبر كذلك من الحلم، فكان ما قصه الله عز وجل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.