للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم)]

يأمر الله عز وجل المؤمنين بأدب من الآداب الشرعية العظيمة فيقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:٥٨]، وهذه الآية في الاستئذان الخاص، والآية السابقة كانت في الاستئذان بعمومه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:٢٧] أي: في أي بيت غير بيتك لا تدخل حتى تستأذن وتستأنس، فإذا كان في بيتك فهناك ثلاثة أحوال لا بد من الإذن فيها، فخصص هنا وقال: ((لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)) أي: العبيد الذين تملكونهم في بيوتكم، وكذلك {والَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:٥٨] أي: الأطفال الصغار، والطفل متى فهم ووعى وعرف العورة واستحيا منها فإنه يؤمر بالاستئذان، ولذلك قال الزهري حين سئل عن عُمْر هذا الذي يستأذن؟ فقال: أربع سنوات، يعني في هذا السن يعرف العورة، وإذا نظر يستحي من هذا الشيء، فعلى ذلك يعلم الصبي أنه لا يفتح الباب ولا يدخل على أبيه وأمه إلا بعد أن يستأذن، فيعلَّم في هذا السن.

والصبي ليس مكلفاً ولذلك أمر الله عز وجل المؤمنين بقوله: ((لِيَسْتَأْذِنْكُمُ)) أي: ليستأذنوكم أنتم لكن لا يأثم إن دخل دون استئذان وإنما هو تعويد حتى لا ينظر إلى شيء يتأذى به ولا يفهمه، فقد يدخل الصبي الصغير ويفتح الباب ويجد الأب يجامع الأم، فهذا منظر بالنسبة له يجعله يتحير فيه، ولعله يمرض بسببه، وكم رأينا من أصيب بعقدة نفسية في حياته من صغره بسبب أنه نظر لشيء لا يفهمه، لذلك ربنا سبحانه وتعالى يؤدب المؤمنين ويؤدب الصغار والكبار ويعلمهم أن الصغير يستأذن طالما أنه يعقل ويفهم ذلك، فإذا أراد أن يدخل باباً مغلقاً فيه الأب أو فيه الأم، أو فيه الأخ، أو فيه الأخت فإنه يستأذن في هذه الأوقات الثلاثة؛ لأن هذه الأوقات هي مظنة أن يكون الإنسان فيها عارياً، فقال سبحانه: ((لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثلاث مرات)) يعني: الأطفال الصغار الذين يفهمون العورات، يستأذنون ثلاث مرات، وهنا المقصد أن يستأذنوا في الأوقات الثلاثة التي سيأتي بيانها، وليس المعنى أنه يستأذن ثلاث مرات ويقول: أأدخل؟ أأدخل؟ أأدخل؟ لا؛ لأن بقية الآية يوضح مقصد الله سبحانه وتعالى من الثلاث المرات، فقال تعالى: ((مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ))، فهذه هي الأوقات الثلاثة التي الغالب فيها أن الإنسان وخاصة في الحر يدخل غرفة نومه، ويخلع ثيابه، فلعله ينام وليس عليه إلا ما يستر العورة المغلظة فقط.

وإذا كان الصغير الذي هو غير مكلف ومرفوع عنه القلم ومع ذلك هو مأمور بأن يستأذن، ومأمور الولي أن يعلمه أن يستأذن فكيف بالبالغ الكبير؟! قال سبحانه وتعالى: ((مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ)) يعني: هذه الأوقات الثلاثة أوقات قد تنكشف فيها عوراتكم وأنتم نائمون أو مستيقظون، ((ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ)) يعني: هي ثلاث عورات لكم، فهنا المبتدأ محذوف، والخبر فيها (ثلاثُ) على قراءة الجمهور، وأما شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف فقرءوا: (ثلاثَ عورات لكم) يعني: كأن هذه الأوقات أوقات عورات لكم.

فقوله: ((ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ)) أي: حرمنا على الإنسان فيها أن يفتح باباً مغلقاً في هذه الأوقات حتى يستأذن مَن بداخلها، ((لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ)) أي: ليس عليكم أنتم أن تفتحوا باباً في بيتكم، فيدخل بعضكم على بعض، لكن في الماضي كانت الغرف ليس لها أبواب، وإنما عليها ستور، فكان الواحد يفتح ستره ويدخل بسهولة، فالله عز وجل علم أدب الاستئذان سواء الستر موجود أو الباب مغلق، ففي غير هذه الأوقات عادة الإنسان أنه يلبس فيها ثيابه، فلا بأس أن يدخل بعضهم على بعض، إلا أن يكون الباب مغلقاً، فإذا كان الباب مغلقاً فلا أحد يفتح باباً ويدخل فيه؛ لعل إنساناً يبدل ثيابه، ولعله يكون متعرياً، فطالما أن الباب مغلق فإن عليه أن يستأذن.

إذاً: في هذه الأوقات الثلاثة قد يكون الباب مفتوحاً بالليل مثلاً وعليه ستارة، ويكون وراء الستار الرجل مع امرأته أو نحو ذلك، فنهى عن الدخول فيها دون استئذان؛ لأن هذه الأوقات مظنة انكشاف العورة.

قال سبحانه: ((لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ))، فهنا الخطاب في قوله (عليهم) للعبيد الذين ملكت أيمانكم، وأما الأطفال الصغار فليس عليهم إثم أصلاً، وإنما الإثم على الكبير البالغ.

وقوله: (جناح) يعني: إثم قوله: ((طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ)) يعني: يطوف بعضكم على بعض؛ لأن العادة في بيت الإنسان أن أبواب الغرف تكون مفتوحة، ويدخل من مكان إلى مكان ويتحرك براحته في بيته، ولكن في هذه الأوقات يراعي الإنسان أن يستأذن حتى لا ينظر إلى أمه أو إلى أبيه وهما على حال لا ينبغي أن ينظر إليهما فيه.

فقوله: ((طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ)) يعني: في سائر الأوقات، قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} [النور:٥٨] يعني: كهذا البيان العظيم الواضح، فالله عز وجل يوضح لكم دينكم ويوضح لكم آدابكم، فهو سبحانه لا يستحيي من الحق، فعلى ذلك هنا تأمر ابنك أن يستأذن، وتعلمه أدب الاستئذان من صغره، حتى يتعود على ذلك، فإذا كبر لا يفتح باباً مغلقاً أبداً حتى يستأذن مَن بداخل هذا المكان.

قال سبحانه: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} [النور:٥٨] أي: بما تحتاجون إليه وبما ينفعكم، {حَكِيمٌ} [النور:٥٨] في أمره سبحانه، فكل ما يأمر به مبناه على حكمته سبحانه وتعالى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>