[تفسير قوله تعالى:(ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر على لسان مؤمن آل فرعون:{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ}[غافر:٣٤].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآية وما قبلها عن مناظرة وجدال مؤمن آل فرعون لفرعون ومن معه، ودعوتهم إلى أن ينظروا في كلام موسى وأن يتريثوا، فلا يحكموا عليه حتى يروا ماذا يقول، وحتى يتدبروا كلامه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكان يخاطبهم بقوله: يا قوم! يا قوم! يتلطف معهم، ولم يظهر لهم إيمانه في البداية لعلهم يحكمون عقولهم، وحتى لا يصدوه عن سبيل الله سبحانه وتعالى إذا علموا أنه مؤمن، فكأن هذا المؤمن التقي أخفى إيمانه من هؤلاء خوفاً منهم، هذه ناحية، والناحية الأخرى: أنه أخفى إيمانه لأنه لو بدأ وقال: أنا مؤمن مع موسى، لكذبه فرعون ولأعرض عنه ولم يستمع إلى ما يقوله، ولذلك كتم إيمانه في البداية وبدأ يقول: تفكروا إذا كان هذا الرجل كاذباً فالله سيحاسبه على كذبه، وإذا كان صادقاً فسيصيبكم بعض الذي يعدكم، وهو يعدكم بأنكم إذا آمنتم فلكم الجنة، وإذا كفرتم فلكم النار، وقد جربتم العذاب قبل ذلك، فلم لا تفكرون فيما يقول موسى عليه السلام؟ ثم ذكرهم بما حدث للأمم السابقة فقال:{يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ}[غافر:٣٠] قوله: (مثل يوم) أي: جنس الأيام التي جرت على الأحزاب الذين كانوا من قبلكم، قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط، وغيرهم ممن تحزبوا على أنبياء الله وأرادوا إيذاءهم وقتلهم، فجاءهم العذاب من عند الله سبحانه وتعالى، فخوفهم بعقوبة الدنيا، ثم خوفهم بعقوبة الآخرة فقال:{وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ}[غافر:٣٢] أي: يوم القيامة يوم يستغيث بعضكم ببعض فلا ينفع بعضكم بعضاً.
ثم ذكرهم هذا الرجل المؤمن بأنه قد جاءهم قبل موسى نبي آخر وهو يوسف عليه السلام، جاء إلى مصر وكان يعمل على خزائن الأرض حفيظاً وأميناً ووزيراً لملك مصر، ودعاهم إلى دين الله سبحانه وتعالى، فهو لما كان في السجن قال لمن معه:{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[يوسف:٣٩ - ٤٠] فأخبرهم بأن الإله الواحد سبحانه خير، وأن الأرباب المتفرقة التي تدعى شر، قال تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[الأنبياء:٢٢] أي: لفسدت السماوات والأرض، والمعروف عند البشر أنه إذا وجد أكثر من رئيس في مكان واحد يتعارض هذا مع هذا، وكل منهما يريد أن ينفذ ما يريد، فإذا كان هناك مركب واحد فيها رئيسان فستغرق المركب في النهاية؛ لأنه لا يصلح للسفينة إلا ربان واحد، ولا يصلح للعمل إلا رئيس واحد، فكيف يكون لهذا الكون كله أكثر من إله يحكم فيه ويدبره؟ قال تعالى:{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}[يوسف:٤٠] أي: أنهم سموا أشياء فعبدوها من دون الله سبحانه، عبدوا البقر وعبدوا العجل وعبدوا القمر وعبدوا الشمس وعبدوا أشياء كثيرة، حتى جاء فرعون فاستكثر هذه الأشياء {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}[النازعات:٢٤] كأن لهم أرباباً غير الله وهو الرب الأعلى لهؤلاء، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}[الزخرف:٥٤].