[تفسير قوله تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم)]
قال الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:١٠].
أي: اذكروا عندما جاءكم هؤلاء الأحزاب من كل مكان فنصركم الله عليهم.
قال تعالى: ((إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)) يعني: كأنهم جاءوا من مكانين: من فوقكم ومن أسفل منكم، من المشرق ومن المغرب، من مكان عال ومن مكان منخفض.
وقوله: ((جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)) فهؤلاء الكفار بينكم وبينهم الخندق، واليهود من ورائكم خانوكم بعد ذلك، فإذا كانت القلوب بلغت الحناجر من شدة الخوف والرعب من الكفار، فكيف حين يعرفون أن اليهود أيضاً صاروا من ورائهم، وصار المسلمون بين فكي كماشة؟! هؤلاء من ورائهم وأولئك من أمامهم، والمسلمون في غاية الرعب والخوف، فيذكرهم الله عز وجل بهذه النعمة.
لقد بلغ الخوف بهم مبلغاً عظيماً، قال تعالى واصفاً حالهم: ((وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ)) يعني: صار الواحد منهم كأنه لم ير شيئاً أمامه قد زاغ بصره، فينظر في كل مكان فلا يستطيع أن يركز، وكأن القلب وصل إلى الحنجرة من شدة الرعب والخوف.
انظر وأنت راكب المصعد حين ينزل بك فجأة وأنت غير منتبه تحس أن قلبك قد طار، وكذلك عندما يفزعك أحد في شيء تحس أن قلبك قد طار، ففي هذه الحالة لا تستطيع التفكير، فحال المسلمين كان كذلك، فقد بلغت القلوب الحناجر، وزاغت أبصارهم، لا يعرفون من أين تأتي لهم المصيبة، فهؤلاء هل يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، وقد بلغ من حالهم ذلك؟ حينها جاء النصر من عند الله سبحانه وتعالى، ولم يقتل من المسلمين سوى ستة، ولم يقتل من الكفار سوى ثلاثة.
إذاً: لم يكن هناك حرب وقتال بينهم ولم تحصل مسايفة، ولكن حدث ما أخبر الله عز وجل به أن جاء النصر من عند الله وحده لا شريك له.
فالمؤمن في قلبه الإيمان وإن قال: يا رب أخرت النصر لكن أنا واثق في نصرك، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:١١٠] يعني: لابد من الصبر، فيخبر الله عز وجل عن رسل الله عليهم الصلاة والسلام: ((حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ)) من إيمان قومهم، ((وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا)) أي: وظن الرسل واستيقنوا أن هؤلاء مكذبون لهم، وانتظر الرسل النصر من الله سبحانه وتعالى، وتأخر النصر شيئاً ثم جاء النصر بعد ذلك، ((جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ)) أي: ينجي الله عز وجل من يشاء ويهلك من يشاء سبحانه وتعالى.
إذاً: الإنسان قد يتمنى شيئاً ولكن ليس شرطاً أن تدرك ما تتمناه، وأن يحقق الله عز وجل الذي تتمناه بعينك، لكن له حكمة سبحانه وتعالى أن يحقق هذا الشيء أو يؤخر، وفي كل خير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) فالأمر كله خير للمؤمن، والله أعلم بما هو خير وأفضل للمؤمن، فأنت حين تتمنى شيئاً والله عز وجل يقول لك: لن أعطيك هذا الشيء، بل نعطيك ما هو أفضل منه، فيتمنى المؤمن أن يقتحم على عدوه وأن يقتل عدوه وينتصر عليه، والله يرى لهذا العبد مكانة أنك لو قتلت هذا العدو فلن تصل لها، ولو قتلك العدو تصل إليها، فالله يحكم بالشيء الذي يمكن أن الإنسان لا يريد هذا الشيء، قال تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:٧] المؤمنون يطلبون شيئاً.
{وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال:٧].
فالله سبحانه وتعالى له الحكمة فيما يفعل بعباده، فالمؤمنون ظنوا بالله الظنونا، فمنهم من ظن أن سيغلبون الكفار، لكن لحكمة من الله عز وجل تأخر النصر، أما المنافقون فأساءوا الظن بالله سبحانه كعادتهم.
فقوله: ((وتظنون)) الخطاب هنا موجه للمؤمنين وللمنافقين الذين معهم، المؤمنون ظنوا أن النصر تأخر لحكمة من الله سبحانه وتعالى، المنافقون قالوا: إنه يعدنا بكنوز كسرى وقيصر ونحن لا يأمن أحدنا أن يذهب إلى الخلاء، فأساءوا الظن بالله سبحانه وتعالى.
قوله: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) فيها قراءتان: فيقرأ نافع وابن عامر وشعبة عن عاصم وأبو جعفر: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) وصلاً ووقفاً، إذا وقف قال: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) وإذا وصل الآية بالتي تليها ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) * {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:١١].
ويقرؤها ابن كثير وحفص عن عاصم والكسائي وقفاً: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) بالألف في آخرها، فإذا وصل حذف الألف وجعلها فتحة فقط قال: ((وتظنون بالله الظنون)) * {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:١١].
وباقي القراء يقرءونها بغير ألف وقفاً ووصلاً: (وتظنون بالله الظنون).
والذي سيقال في هذه الكلمة: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) سيأتي في كلمة (الرسولا) و (السبيلا) في الوقف والوصل.