[قصة قذف المغيرة بن شعبة رضي الله عنه]
وقد روي أنه في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قذف مجموعة من الناس رجلاً من أفاضل الصحابة وهو المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، فقد قذفه أربعة، فشهد عليه ثلاثة، والرابع كاد ولم يفعل.
وهؤلاء الأربعة هم أبو بكرة وهو صحابي فاضل رضي الله تبارك وتعالى عنه، واسمه نفيع بن الحارث بن كلدة، وأخوه نافع بن الحارث بن كلدة، وشبل بن معبد، وزياد بن أبيه، فلما ذهبوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع منهم، فلما جاء الرابع وهو زياد قال عمر رضي الله عنه: أرى رجلاً لا يفضح الله أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على لسانه، فقال الرجل: أما الزنا فلم أر، قال: رأيت أمراً قبيحاً.
والظاهر أن هذا كان من باب النكاح الذي كان لا يجيزه عمر، وكأن المغيرة رضي الله تبارك وتعالى عنه -كما جاء في بعض الروايات الضعيفة التي توضح هذا الشيء- أنه لما كان والياً في أمر من أمور المسلمين تزوج هذه المرأة بهذه الولاية؛ لأنه كان أميراً، فكان هو بدلاً عن الولي فزوجها من نفسه؛ لأنه الأمير.
فلما تزوجها رآه هؤلاء وهو يأتيها وقد أصبحت امرأته، فرفعوا الأمر إلى عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولم يروا أنه تزوجها، وعمر كان لا يجيز مثل هذا الزواج، وكان يسميه نكاح السر، ويقول: لو رفع إلي ذلك لرجمت فيه.
فكان المغيرة بين أمرين: إما أن يقول: تزوجتها واجتهدت في ذلك، وهنا يقول له عمر: لأرجمنك؛ لأن هذا ليس زواجاً على ما يختار عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، وإما أن يسكت ولا يتكلم كما فعل هنا رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهؤلاء قالوا: إنهم رأوه يأتيها.
وقال الرابع: رأيت أمراً قبيحاً أما الزنا فلا.
وحاشا له أن يزني رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولكنه كان متأولاً في ذلك، ورأى أنه يجوز له أن يتزوجها من غير وليها لكونه أميراً.
والصواب: أنه ليس له ذلك، ولكنه اجتهد رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فلما شهد الثلاثة بذلك ولم يشهد الرابع وإنما قال: رأيت أمراً قبيحاً أما الزنا فلا، أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالثلاثة فأقيم عليهم الحد، ومنهم هذا الصحابي الفاضل أبو بكرة واسمه نفيع بن الحارث بن كلدة رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وأما الرابع الذي قال: رأيت أمراً قبيحاً فلم يقم عليه الحد، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لهؤلاء: توبوا وارجعوا عن ذلك، فأنا أقبل شهادتكم إذا تبتم ورجعتم عن هذا -وهذا بعدما أقام عليهم الحد، وجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة-، فتاب اثنان ورجعا عما قالا، وأما أبو بكرة فقال: لا والله لا أرجع، ولقد رأيته، وقام يعيدها مرة ثانية، فأراد عمر أن يقيم عليه الحد مرة ثانية رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال علي بن أبي طالب -وهو فقيه رضي الله تبارك وتعالى عنه- لـ عمر: إن أقمت عليه الحد فارجم صاحبك.
يعني: إذا أردت أن تقيم عليه الحد فمعنى ذلك أنه قد كملت عندك أربع شهادات؛ لأنك جلدت هؤلاء الثلاثة، وستجلد هذا مرتين، فكأنه شاهد رابع، وقد قبلت أنه شاهد رابع، فقد أصبح الآن عندك أربعة شهود، إذاً: فارجم هذا الآخر، وأقم عليه الحد.
فلم يفعل عمر بن الخطاب لم يجلد ولم يرجم، وكان عمر بن الخطاب بعد ذلك لا يقبل شهادة أبي بكرة رضي الله عنه، ويقول له: تب فإذا تبت -يعني: رجعت وكذبت نفسك في هذا الذي قلته- قبلت شهادتك، فرفض هذا الشيء، وكان رجل عدلاً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فكان إذا طلب للشهادة بعد ذلك يقول: لا تقبل شهادتي، ولا يؤخذ بشهادتي.
يعني: أن عمر قد رد شهادته، وأما هو عند نفسه فيرى نفسه صادقاً، وما كان يقول عن نفسه أنه: كذاب حاشا له أن يكون كاذباً رضي الله عنه، ولكنه أخطأ في التأويل.
فالمقصود: أن هؤلاء الثلاثة قد شهدوا، وأما الرابع فقال: رأيت أمراً قبيحاً، ومع ذلك لم تقبل هذه الشهادة، فإذا كان الشاهد واحداً فمن باب أولى له أن يسكت.