تفسير قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:١١].
يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية وما بعدها حديث الإفك الذي قاله المنافقون، ووقع فيه بعض المسلمين في شأن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، وفي ذلك موعظة لكل إنسان مؤمن لئلا يتطاول على أشياء قد حرمها الله عز وجل فيقع فيها.
وقد بدأت هذه السورة بذكر حرمة الزنا، ثم الكلام عن القذف وأن الإنسان الذي يقذف غيره إن لم يأت بالشهداء فهو عند الله من الكاذبين، وقال سبحانه: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:٤].
فالأصل في الإنسان المسلم أن يمسك لسانه عن الوقوع في أعراض الناس، كما أنه يكف يده عن أن يقع في سفك الدماء، أو أن يأخذ أموال الناس بالباطل.
ولما ذكر الله عز وجل في أول هذه السورة القذف والزنا حدثنا هنا عن أمر من الأمور التي وقعت لزوجة النبي صلى الله عليه وسلم وأحب أزواجه إليه، ففي ذلك موعظة وبيان أنه إذا نزلت بإنسان مصيبة فليست هي آخر الدنيا، وأنها ليست الهم الذي يجعل الإنسان يستشعر الشر العظيم في ذلك، ولكن ما من مصيبة تنزل إلا وفيها خير من الله عز وجل، ولذلك يطمئن الله المؤمنين ويقول: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:١١]، وإن كانت صورته شراً للمؤمنين، وشراً في بيت النبي صلى الله عليه وسلم أن يحدث هذا الإفك الذي يفتريه الكذابون على آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن مع ذلك يقول الله: هو خير، وما من شر يحدث للإنسان إلا ومن وراءه خير لو صبر على الذي ابتلي به.
وليس هناك شيء يدوم، بل إن الشر الذي يبتلى به الإنسان لا بد أن يأتي عليه الوقت ويزيله الله عز وجل، ويرفعه بعدما يكون هذا الإنسان المؤمن قد أخذ الأجر العظيم من الله سبحانه على صبره على ذلك.
قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} [النور:١١].
الإفك: حديث الكذب، يقال: الإنسان الأفاك، أي: الكذاب الذي يختلق الشيء، ويؤلف الكذبة ويقولها، فيتناقلها الناس ويتناولونها منه.
والعصبة: الجماعة من الناس من ثلاثة فما فوق، وتطلق على العشرة أيضاً، وقد تطلق على الأربعين.
فقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) أي: أن مجموعة منكم وقعوا في الإفك، إلا أن صاحب الجريمة والإفك والكذب هو عبد الله بن أبي ابن سلول زعيم المنافقين، وكان خزرجياً أنصارياً، ووقع فيه كذلك مجموعة آخرون من المسلمين أساءوا بالوقوع في ذلك، فأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليهم الحد، والعجيب أن هذا المنافق لم يقم عليه الحد؛ لأنه تكلم في السر وكلم المنافقين أمثاله، وشاع الخبر فتناقله المسلمون، ووقعوا فيه، فكان ممن تكلم في ذلك مسطح بن أثاثة، وأمه ابنة خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان أبو بكر ينفق عليه؛ لأنه كان فقيراً، وكان ممن شهد بدراً، فوقع في شأن عائشة رضي الله عنها، ووقع فيها رجل آخر وهو شاعر النبي صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت رضي الله عنه، وكان ممن نقل هذا الكلام أيضاً أخت زوجة النبي صلى الله عليه وسلم واسمها حمنة بنت جحش، وهي أخت زينب بنت جحش رضي الله عنها وضرة عائشة، ولكن عصمها الله عز وجل بالورع.
ومعلوم أن النساء الضرائر تكيد كل ضرة لصاحبتها، ولكن هذه التي كانت في منزلة عائشة عند النبي صلى الله عليه وسلم تقول عنها عائشة: وكانت تساميني عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلما تحدث الناس بهذا الحديث الكاذب فـ زينب رضي الله عنها مع كونها ضرة لها عصمها الله عز وجل بالورع، وقالت: لا أقول إلا خيراً، أحمي سمعي وبصري، ما علمنا إلا خيراً.
لكن أختها حمنة بنت جحش وقعت في ذلك وتكلمت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلد هؤلاء الحد الشرعي بعد القصة الطويلة التي حصلت.
والله عز وجل له حكم عظيمة في هذا الأمر الذي حدث لأحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فغيرها لن تكون أفضل منها فإذا حدث لها مثل ذلك فلتتصبر بما حدث لـ عائشة رضي الله عنها.
وكذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما وجد مسطحاً ابن خالته يتكلم عن ابنته وكان ينفق عليه حلف أنه لا ينفق عليه، فنزل القرآن يؤدب أبا بكر الصديق ويحذره من ذلك ويقول: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:٢٢].
فإذا به يقول: بلى أحب أن يغفر الله لي.