[تفسير قوله تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة سبأ: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ * قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ:٢٣ - ٢٦].
يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات أنه لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ذلك، والله عز وجل ذكر في مواضع في كتابه أن الشفاعة لا تنفع عنده إلا بإذنه كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٥٥]، وقال تعالى: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:٢٣]، وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:٢٨].
فالله سبحانه تبارك وتعالى لا يأذن لأحد أن يشفع إلا إذا أراد الله في وقت بعينه سبحانه تبارك وتعالى؛ ولذلك ذكر في حديث الشفاعة: (أن النبي صلوات الله وسلامه عليه يخر تحت العرش ساجداً فيدعو لله عز وجل ويثني عليه ثم يأذن له بعد ذلك سبحانه تبارك وتعالى بالشفاعة العظمى).
قال تعالى: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:٢٣] أي: إلا لمن أُذن له أن يشفع فيه.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} [سبأ:٢٣] فالخبر ينزل من السماء فتأتي به الملائكة يحملون خبر الرحمن سبحانه تبارك وتعالى، وينزل به جبريل ومن يسمع من الله سبحانه والله سبحانه تبارك وتعالى، ويبعث إلى من يشاء من خلقه بأمره سبحانه، فإذا بأمر الله ينزل، والملائكة تسمع أمر الله وتخر لله سبحانه تبارك وتعالى من هيبته ومن خشيته ويصعقون إذا سمعوا نداء الله سبحانه تبارك وتعالى؛ فزعين يظنون أن القيامة على وشك أن تقوم، فإذا به يفزع عن قلوبهم أي: يذهب الفزع عن القلوب، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ:٢٣] أي: أزال الفزع عن قلوبهم سبحانه، وقالت الملائكة تسأل جبريل: ماذا قال ربنا؟ فيقول: قال الحق، أي: قضى بالحق سبحانه تبارك وتعالى، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:٢٣]، العلي الكبير المتعال سبحانه تبارك وتعالى، فهو العلي وعلوه علو ذات وعلو شأن وعلو في مقداره، وعلوه فوق سماواته على عرشه استوى كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] وكما قال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:١٦]، وكما جاء في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم للأمة التي لطمها سيدها وأراد أن يعتقها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ائتني بها)، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم ليتبين له إيمانها، فقال لها: (من أنا؟ قالت: أنت رسول الله)، قال: (أين الله؟ فأشارت بيدها إلى السماء فصدقها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اعتقها فإنها مؤمنة).
ولو أخطأت في قولها وإشارة يدها لبين لها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقرها على خطأ، فالقرآن والسنة يدلان على أن الله سبحانه فوق السماوات مستو على عرشه بائن من خلقه سبحانه تبارك وتعالى.
وكذلك في رفع الأيدي إلى السماء أثناء الدعاء دليل على علو الله، والنبي صلى الله عليه وسلم جاءت عنه أحاديث كثيرة أنه رفع يديه إلى السماء ودعا ربه صلوات الله وسلامه عليه، فالغرض أن الله هو العلي، فهو علي بذاته سبحانه فوق سماواته، وعلي بقهره فوق خلقه، قهر جميع خلقه سبحانه فلا أحد يعترض على الله سبحانه على أمره الكوني القدري، أما إذا جاء قضاؤه وقدره فلا يقدرون أن يفروا من قضاء الله وقدره سبحانه تبارك وتعالى، فهو العلي الغالب سبحانه، غلبهم بقضائه وقدره، وغلبهم بحكمه وحكمته سبحانه تبارك وتعالى، وهو العلي في شأنه، قال تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:١٠٣].
وهو الكبير، أكبر من كل شيء سبحانه تبارك وتعالى، أرانا في خلقه الأشياء الكبيرة فأرانا الجبال وقال لنا سبحانه تبارك وتعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:٢٧ - ٣٣].
أأنتم أشد خلقاً أم هذه الأشياء؟ فالإنسان ينظر إلى الأرض من حوله، وإلى السماوات ولكنها لا تساوي شيئاً مقارنة بهذا الكون الكبير، والله سبحانه فوق ذلك، فهو العلي الكبير سبحانه تبارك وتعالى.
فإذا عرف الإنسان أن هذا الكون كبير فإن الذي خلقه سبحانه تبارك وتعالى أكبر منه وأكبر من كل شيء، فهو العلي سبحانه وتعالى أن يدرك، فهو أكبر من كل شيء سبحانه تبارك وتعالى.