[معرفة أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه رحمة للعالمين]
فقد كان يقول: (لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة أعين).
وقد عرفه أهل الكتاب بصفة الرحمة، فقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي.
وهو حديث صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب).
وقد من الله على قريش برحلة إلى الشام ورحلة إلى اليمن، في الشتاء والصيف، فقال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:٣ - ٤]، فأخذه عمه أبو طالب في قافلة قريش المتوجهة إلى الشام، فلما وصلوا إلى أطراف الشام في تجارة والنبي صلى الله عليه وسلم صغير معهم، فإذا بالراهب الذي في ذلك المكان ينزل إليهم، وذلك كما في الحديث.
(خرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم، ولا يلتفت، فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول يبعثه الله رحمة للعالمين.
فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ - أي: كيف عرفت هذا الشيء؟ - قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً) فرأى ذلك هذا الراهب، وهي آية من آيات الله عز وجل له.
قال الراهب: (ولا يسجد الشجر والحجر إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة) أي: أنه أخذه وفحصه ورأى كتفه، فوجد فيه خاتم النبوة مثل التفاحة وهي: غدة من اللحم على ظهره صلى الله عليه وسلم في أسفل غضروف الكتف، مثل التفاحة.
(ثم رجع فصنع لهم طعاماً، إكراماً للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتاهم به كان النبي صلى الله عليه وسلم يرعى الإبل، فقال: أرسلوا إليه، قال: فأقبل وعليه غمامة تظله من حر الشمس)، فكان يمشي صلى الله عليه وسلم وفوقه سحابة تظل رأسه صلوات الله وسلامه عليه، وذلك قبل أن يوحى إليه عليه الصلاة والسلام، يعني: قبل أن يبلغ سن النبوة الذي هو سن الأربعين سنة.
قال: (فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجلس، مال فيء الشجرة عليه، فقال الراهب: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه)، فهم لم يروا الشجر يسجد، ولكن الراهب رآه، وأخبرهم بذلك، وخوفاً من أنهم لا يصدقونه أخبرهم بعلامة في كتفه، فكان المفروض أن يصدقوه، ثم أخبرهم أن ظل الشجرة عندما جلس مال إلى الجهة الأخرى، فالمفروض أن هؤلاء أول من يصدق النبي صلوات الله وسلامه عليه.
قال: (فبينما هو قائم عليهم وهو يناشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إذا رأوه عرفوه بالصفة، فيقتلونه، فالتفت فإذا بسبعة قد أقبلوا من الروم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا لأننا علمنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه أناس)، يعني: أنهم كانوا مستعدين لوجود نبي الله سبحانه، فأناس من الرهبان يعرفون أن هناك نبياً، وهم ينتظرون حتى يؤمنوا به، وأناس آخرون ينتظرونه صلوات الله وسلامه عليه، فهؤلاء الروم بعثوا في كل طريق من طرق الشام مجموعة من الجنود لقتل النبي صلوات الله وسلامه عليه، قالوا: (وإنا قد أخبرنا خبره وبعثنا إلى طريقك هذا.
فقال لهم الراهب: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إنما أخبرنا خبره بطريقك هذا.
فقال لهم الراهب: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقدره أتقدرون على رده؟ قالوا: لا، قال: فبايعوه وأقاموا معه)، أي: بايعوا على أن لا تؤذوه، وأترككم تتعبدون معي هنا، فبايعوه ومكثوا معه في الطريق، فكان أماناً للنبي صلوات الله وسلامه عليه من رب العالمين.
(قال الراهب: أنشدكم بالله، أيكم وليه؟ قالوا: أبا طالب، فلم يزل يناشد أبا طالب حتى رده أبو طالب).
فهل يحتاج إلى مناشدة وقد رأى مثل هذه الآيات؟ نلاحظ أن أبا طالب مات كافراً، ولم يمت مسلماً، وهو قد دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ورأى من الآيات ما رأى، ومع ذلك قضى الله عز وجل أن يموت كافراً، فالغرض أنهم ردوا النبي صلى الله عليه وسلم.
والشاهد من الحديث هو قول الراهب: هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه.