[تفسير قوله تعالى:(ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض)]
{وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون:٧١]، ذكرنا أن الله عز وجل أنزل هذا القرآن بالحق، فيه الشريعة وفيه المنهج وفيه البيان، وفيه إرشاد القوم بإخراجهم من الظلمات إلى النور، ولكنهم كانوا يحبون الابتعاد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعما جاء به من حق من عند رب العالمين، فقالوا كما حكى الله عنهم في سورة ص:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}[ص:٥]، فتعجبوا من غير عجب، وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم من غير سبب، ولكن كان الهوى في أنفسهم هو الذي يدفعهم إلى ذلك؛ لأنهم لو اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم فسيتركون الرئاسة التي هم فيها، ولأن كل إنسان يريد إتباع نفسه هواها يظن أنه لو اتبع النبي صلى الله عليه وسلم فإنه تنازل عما كان عليه، وذلك لأن عقولهم بعدت عن ربهم سبحانه وتعالى، فتجدهم يقولون ما لا يعرفون، ويتكلمون بأشياء مفتراة، ومن ثم عندما يسلمون بعد ذلك يتبين لهم ما كانوا فيه من باطل، فتجد من يدخل الإسلام منهم يعجب من نفسه: كيف كان يعبد غير الله سبحانه! وكيف كان يتعجب من النبي صلى الله عليه وسلم! ويعلم أنه كان خليقاً به أن يتعجب من نفسه في إنكاره على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الله سبحانه وتعالى أعمى أبصارهم، قال سبحانه:{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج:٤٦] فتجد أن الأبصار لا ترى الحجج، وأن القلوب لا تعقل ما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك لما جاءهم الحق كرهوه حسداً وبغياً على النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ يقلد بعضهم بعضاً، وطلبوا أن يكون هذا الذي يأتي به القرآن مثل الذي هم عليه، وأرادوا وقوع الشرك في هذا القرآن.
قال سبحانه:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}[المؤمنون:٧١]، أي: لو كان الأمر بحسب أهواء هؤلاء، فإن أهواءهم متباينة ومتعارضة، وكل منهم يشتهي شيئاً قد لا يشتهيه الآخر ولا يطلبه، فلو نزل القرآن على ما يشتهيه هؤلاء فستفسد السماوات والأرض، ولأن كل شيء قام بالعدل، فلو نزل القرآن بالهوى الذي هم عليه لجاء بالباطل، وحاشا لكلام الله عز وجل أن يكون فيه باطل.
قال سبحانه:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}[المؤمنون:٧١]، ولكن الوقع أنها لم تفسد السماوات ولا الأرض ولا من فيهن، فعلى ذلك ما يقول هؤلاء هو الباطل، فأما القرآن فلم يأت إلا بالحق؛ لأنه لو جاء بباطل لفسدت السماوت والأرض ومن فيهن.
إن التذكير مهمة القرآن، إذ إنه كتاب ذكر، قال تعالى:{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ}[المؤمنون:٧١]، أي: أتيناهم بهذا القرآن العظيم الذي فيه الذكر، وفيه شرف لهؤلاء لو أنهم اتبعوه، ولكنهم أعرضوا فأنى لهم الشرف.
قال تعالى:{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون:٧١]، أي: هم عن شرفهم المنوط باتباع هذا القرآن قد أعرضوا، كما هم عن ذكر الله سبحانه وتعالى معرضون، وإعراضهم ليس بسبب أنك أثقلت عليهم أجر دعوتك فأنت لم تسألهم مالاً على دعوتك، قال تعالى:{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[المؤمنون:٧٢]، (أم) هي المنقطعة بمعنى: بل والهمزة، والمعنى: بل أتسألهم خرجاً؟ والخرج هو الرزق.
وقد أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء:{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:٢٣] أي: قل لهم يا محمد: لا أريد منكم أجراً ولا رزقاً، وإنما أطلب منكم أن تراعوني في قرابتي، فتدركوا أن بيني وبينكم قرابة ورحماً فارعوا هذه الرحم، ولا تؤذوني، ودعوني أبلغ رسالة الله سبحانه، أما الخراج فإن ربي قد أغناني.